وجوه وقضايا

"جهنم آباد" في إيران.. حين قال الابن لأمه: لا تبكِ

عبد الخالق سلطان - دهوك
28 فبراير 2025

حرِمَت من رؤية ابنها 19 شهراً و17 يوما قبل أن يُسمح لها بلقائه لثماني دقائق، مكنته من إبلاغها بوصيته الأخيرة: "لا تبكِ يا أماه، كي لا يفرح الجلادون".

إيران كانت مسرح مأساة هذه الأم الثكلى، أفسانة يوسفي، التي روت لموقع "الحرة" تفاصيل لقائها بابنها الوحيد داخل السجن قبل أن يُعدم العام الماضي مع رفاقه.

وشهد عام 2024 إعدام السلطات الإيرانية لـ975 شخصاً، في "تصعيد مروّع" لتنفيذ عقوبة الإعدام كوسيلة "قمع سياسي" في البلاد، وفق تقرير لمنظمتين حقوقيتين.

أفسانة، ورغم مأساتها، قررت ألا تعتصم بالصمت، مؤكدة أن "شطب السلطات اسمه من قائمة الأحياء" لن يمنعها من إبقاء قضية ابنها، بشمان فاتحي، ورفاقه حيّة.

كان بشمان قد سافر إلى العراق ليعمل من أجل تأمين المال الكافي لعلاج والدته من مرض السرطان، الذي أصابها قبل 15 سنة، حسبما ذكرت والدته المقيمة في بلدتها في كردستان إيران.

وفي العراق، انضم بشمان إلى "جمعية الكادحين الثوريين" (كومله)، وهو حزب كردي إيراني مناهض للسلطات في طهران، ويهدف إلى الدفاع عن حقوق "الشعب الكردي في إيران".

وتقول والدته إن بشمان شارك مع قوات البيشمركة في إقليم كردستان العراق في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" خلال السنوات التي أعقبت اجتياحه لمناطق عراقية عدة.

أما عن تاريخ عودته إلى إيران مع ثلاثة من أصدقائه، فتقول إنها كانت عشية انطلاق التظاهرات الشعبية التي عمّت إيران بعد مقتل الفتاة الكردية، مهسا أميني، عام 2023، على يد قوات الأمن.

وفي إيران، اعتقلهم جهاز الاستخبارات والأمن الوطني "اطلاعات"، ليتم اقتيادهم إلى أحد السجون، وفق ما قالت أفسانة.

وأضافت أن عائلته، وبعد فقدان الاتصال به، سعت إلى معرفة مصيره، وتنقلت بين سجون ومعتقلات عدة دون أي نتيجة، قبل أن تُفرج السلطات عن مكان احتجازه.

فـ"بعد مرور 19 شهراً و17 يوماً على اعتقاله"، سُمح للأم بمقابلة ابنها، و"كان ذلك في بداية عام 2024"، تقول أفسانة.

واستعادت أفسانة تفاصيل اللقاء الأول والأخير، وقالت، والدموع تخنق صوتها: "كنت سعيدة لأنني سألتقي بولدي وأضمه إلى صدري مرة أخرى بعد طول غياب".

وعند وصولها إلى السجن، أبلغها الأمن أن موعد الزيارة محدود، فلديها 8 دقائق فقط للقاء ابنها الوحيد.

"كان ابني قد تغيّر كثيراً، أصبح نحيفاً وعيناه غارقتان، يكسو الحزن العميق ملامحه. ضممته إلى صدري.. عذبوه كثيراً، رأيت آثار الضرب على ظهره ويديه، فبكيت كثيراً...".

اللقاء الأخير.. لا تبك يا أماه

قال لوالدته، وهو يبتسم: "لا تبكِ يا أماه، واعلمي أن هذا هو اللقاء الأخير الذي سيجمعنا، لن يكون هناك لقاء آخر، لأنهم أبلغوني بأنهم سيعدموننا، أنا وأصدقائي الثلاثة. ألصقوا بنا تهمة العمالة والبغي، وأجبرونا على الاعتراف بأننا كنا نعمل مع الموساد الإسرائيلي والقوات الأميركية".

وتتابع أفسانة، وهي تكفكف دموعها: "قد أوصاني بشمان ألا أبكي عندما يُعدم، وألا ألبس الأسود حداداً عليه، كي لا يفرح الجلادون برؤية دموعي".

وبعد هذا اللقاء، لم ترَ أفسانة وحيدها مجدداً، بل حتى إنها لم تشهد إعدامه. وقالت: "مضت أيام وأسابيع حتى أدركت أنهم أعدموا ابني، لأنهم شطبوا اسمه من قائمة الأحياء".

راجعت أفسانة الكثير من الدوائر والمؤسسات الحكومية في إيران "لاستلام" جثمان ولدها، لكن دون جدوى.

أرادت معرفة المكان الذي دُفنت فيه جثة وحيدها، لكن "إلى الآن لا أعلم أين جثمانه، وهل دُفن أم أُلقي به في أحد الأنهار؟".

ولا تزال أفسانة تسعى وتراجع وتطالب السلطات الإيرانية بـ"استعادة جثمان" بشمان، الذي "أُعدم في ريعان شبابه".

وتصرّ الأم الثكلى على دفن ابنها الوحيد، كي يزوره يوماً ما "ابنه الصغير، الذي هاجر مع أمه إلى ألمانيا"، ويستذكر والده.

وعن هذه القضية، قال عضو المكتب السياسي في حزب "كومله"، مولود كامياراني، لموقع "الحرة"، إن بشمان كان منتمياً للحزب، وسافر إلى إيران للقاء أعضاء من "التنظيمات السرية للحزب".

وأضاف أن ثلاثة أشخاص آخرين، وهم محسن مظلوم، وفا آذربار، ومحمد فرامرزي، كانوا برفقة بشمان في إيران.

وقال كامياراني إن السلطات الإيرانية اعتقلتهم بسبب نشاطهم السياسي مع الأحزاب المعارضة.

وأضاف أن الأجهزة الأمنية "ألصقت بهم تهمة العمالة للموساد الإسرائيلي والقوات الأميركية"، وهي مجرد مزاعم لا أساس لها من الصحة، بل مجرد ذريعة اتخذتها السلطات لإعدامهم في يوم واحد، رمياً بالرصاص.

وتقول المنظمات الحقوقية إن السلطات الإيرانية تنفذ بعض عمليات الإعدام في إيران بتهم مبهمة، مثل "الإفساد في الأرض" و"التمرد"، ما يسمح باستهداف المعارضين.

وإحدى هذه التهم المبهمة كانت كفيلة بإعدام هدايت عبد الله بوره عام 2017، شقيق فرهاد عبد الله بوره، الذي كشف لموقع "الحرة" تفاصيل هذه القضية.

وقال فرهاد، المقيم حالياً في إقليم كردستان العراق، إن السلطات الإيرانية أعدمت شقيقه بتهمة "البغي"، وهي تهمة تُطلق على كل من يتعاون أو ينتمي إلى حزب معارض للنظام الإيراني.

وأضاف أن شقيقه لم يكن على اتصال بأي حزب سياسي، بل كان يعمل ميكانيكياً، لكن ذلك لم يمنع "النظام من اتهامه بقتل شخص مقرب من السلطات في المعركة التي نشبت في قريتهم".

وأوضح أن شقيقه لم يكن في القرية حين اندلعت مواجهات بين القوات الإيرانية وقوات الحزب الديمقراطي الإيراني.

وذكر فرهاد أن السلطات أعدمت شقيقه رمياً بالرصاص بحضور أقارب الشخص الذي قُتل في المعركة بقرية "قرسقل" شمال غرب ايران قرب الحدود مع تركيا والعراق.

وقال: "تأكدنا من إعدامه بعدما شُطب اسمه من سجل الأحياء"، وكما حدث في قضية أفسانة وابنها، لم تسلم السلطات جثمان هدايت لذويه، الذين لا يعرفون موقع دفنه رغم سنوات من المحاولة.

وبحسب الناشط السياسي الإيراني، فرياد درودي، لا تسلم السلطات جثامين ضحايا الإعدام لذويهم، وهو ما حصل أيضاً مع صديقه حيدر قرباني.

فالسلطات أعدمت، في عام 2021، حيدر بتهمة "البغي" ومعاداة النظام الإيراني "شنقاً" قبل الفجر بساعة، و"هددوا" أهله وأقرباءه كي لا يقيموا له مأتماً وعزاء، وفق درودي.

وأضاف أن السلطات، وكالعادة، لم تسلم جثمان حيدر إلى أهله رغم المناشدات والمطالبات.

"جهنم آباد"

وذكر درودي أن السلطات الإيرانية خصصت مقبرة في ضواحي مدينة ورمي، وأطلقت عليها "جهنم آباد"، التي تعني "مكان الجهنميين".

ويدفن في هذه المقبرة المعتقلون الذين يُعدمون لأسباب سياسية، وفق درودي، الذي أشار إلى أن السلطات تصب خرسانة إسمنتية على كثير من القبور لمنع الأهالي من إخراج رفات أحبائهم في حال علموا بموقع الدفن.

ومسلسل الإعدامات في إيران مستمر، وفي تصاعد، بحسب محمود أميري، مدير منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، ومقرها في النرويج.

وقال أميري، لموقع "الحرة"، إن منظمته رصدت 975 حالة إعدام نفذتها إيران في 2024، بارتفاع 17 بالمئة عن عام 2023، الذي شهد 834 حالة إعدام.

ولفت أميري إلى أن أغلب الحالات كانت تتعلق بجرائم الاتجار بالمخدرات ثم القتل العمد، حيث لا يستطيع القاتل دفع الدية عن نفسه، فيتعرض للإعدام.

وفي المقابل، أعدمت السلطات العام الماضي 10 معارضين سياسيين، بينهم 9 أكراد إيرانيين.

وقال إن السلطات نفذت عمليات إعدام كثيرة بعد حركة "المرأة، الحياة، الحرية" والمظاهرات الحاشدة التي عمّت مدناً إيرانية على خلفية مقتل مهسا أميني.

وشهدت السنوات الماضية حراكاً للمطالبة بوقف تنفيذ عقوبة الإعدام، أو حصرها بجرائم معينة.

ومنذ عام 2023، يقود سجناء في معتقلات إيرانية حراك "لا لعقوبة الإعدام أيام الثلاثاء"، حيث يضرب السجناء عن الطعام يوم الثلاثاء.

ويشارك في هذا الحراك الكثير من المعتقلين في عموم إيران، بحسب أميري، الذي قال إنها من أنشط الحركات "المناهضة لعقوبة الإعدام" في إيران، ما يمهد لبداية حراك جماهيري أوسع في المستقبل.

وتلجأ السلطات الإيرانية إلى تنفيذ عقوبة الإعدام "بشكل ممنهج كأداة للقمع" ضد المعارضين لها، بحسب أميري، الذي طالب المجتمع الدولي بالضغط على طهران "لكبح آلة القتل" في البلاد.

عبد الخالق سلطان

النازحون اللبنانيون
آلاف النازحين فقدوا منازلهم وتـُركوا لمصيرهم

بعد أقل من شهر على انتقال عدي وعائلته إلى منزلهم الجديد، الذي استغرق بناؤه 15عاما؛ انقلبت حياتهم رأسا على عقب.

فتحت جماعة حزب الله في 8 أكتوبر جبهة الجنوب على إسرائيل تحت شعار "حرب الإسناد" لقطاع غزة.

قرار الحزب مساندة حماس في مواجهة الجيش الإسرائيلي، كلّف اللبنانيين غير المعنيين بالحروب آلاف الأرواح، وترك مئات آلاف آخرين من دون سند.

وتكبد لبنان جراء الحرب خسائر اقتصادية ومادية بنحو 8.5 مليار دولار أميركي، بحسب تقييم البنك الدولي.

أما عدي، فقد تبعثرت عائلته، لكن المعاناة لم تتوقف عند هذا الحد.

نزحت زوجته وطفلاه برفقة أهله، من مزرعتهم في قرية "الضهيرة،" إلى مخيم الرشيدية، شرقي مدينة صور، في الجنوب. وتلك كانت أول محطة في رحلة نزوح طويلة تكبدها هو وأسرته.

بدايةً، صعُبت عليه فكرة النزوح بعيدا والتخلي عن مزروعاته.

قرر البقاء لوحده في القرية.

"كانت لدي مزروعات حبوب على مساحة 36 ألف متر، إضافة إلى مساحات من مساكب الدخان"، يقول عدي لموقع "الحرة".

ولأن منزله قريب جدا من الحدود، ويقع مقابل تلة "الجرداح" الإسرائيلية، انتقل عديّ للعيش في منزل جدّه في منطقة قريبة اعتبرها أكثر أمانا.

وتشكل تلة "الجرداح" نقطة تموضع لأفراد الجيش الإسرائيلي وآلياته.

بعد مرور خمسة أشهر، استهدفت غارة إسرائيلية منزلا مجاورا، وبفعل ضغطها القوي الساخن ارتفع عدي مسافة في الهواء، وسقط على أريكة.

"في تلك اللحظة،" يقول عدي، "فقدت الأمل في الزراعة بصراحة، ونزحت".

انضم إلى عائلته التي كانت قد انتقلت من مخيم الرشيدية إلى منزل شقيقته في صيدا، جنوبي لبنان.

بعد نحو عام من عمر الحرب، اشتدّ القصف على صيدا أيضا، فنزح ثانية مع العائلة إلى منزل بالإيجار في منطقة في بنين - قضاء عكار شمالي لبنان.

توسّعت الحرب، واستُهدفت بنين أيضا بغارات جوية.

حزمت العائلة أشياءها ونزحت - في نفس المنطقة هذه المرة - إلى بلدة خربة داوود القريبة من الحدود السورية.

لاحقتهم الغارات إلى هناك. إذ استهدفت إسرائيل المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، بكثافة، لقطع الإمدادات عن حزب الله.

أصبحت العائلة عرضة لخطر الصواريخ والمقذوفات. فنزحت، للمرة الخامسة، إلى الجنوب، لتستقر في بلدة القاسمية الساحلية، المحاذية لمدينة صور.

فداحة الخسائر

ما سميت بـ"حرب الإسناد"، لم توقف الحرب في غزة. 

وأسفرت عن مقتل ستة آلاف شخص في لبنان ـ يرجح أن معظمهم مدنيون ـ بحسب أحدث إحصائية "للمؤسسة الدولية للمعلومات".

تسببت الحرب كذلك في نزوح داخلي لأكثر من 875 ألف شخص. وكانت ظروف النزوح أقسى على النساء والأطفال والمسنين والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة واللاجئين.

خلال ترحاله مع العائلة، استأجر عدي أرضا في بلدة "القليلة" جنوبي صور، زرعها مساكب دخان (تبغ)، ويعتزم نقل هذا الشتل إلى بلدته. 

لكن خطته هذه، تحدّها عقبات.

أحلام تبخرت

نصيب قرية عدي من الحرب دمار مهول. عدي عاينها بنفسه. 

القرية "مدمّرة بالكامل. سُوّيت كلها بالأرض. لم يعد فيها أي سقف ولا حتى زاوية. المدارس، المساجد، المباني البلدية، الآبار الأرتوازية، كل شيء مدمر" بما في ذلك منزله الجديد، يقول.

"بيتي تدمّر بالكامل ما بقي منه أي شيء".

ليس المنزل فحسب. "جرفوا بساتين الأفوكادو والزيتون كلها، ما بقي عندي ولا شجرة واحدة".

ليس هذا فحسب. خسر أيضا آلياته الزراعية. 

"كان عندي تراكتور (جرارة) كبير و آخر صغير، احترقت، كانت تساوي 25 ألف دولار". لم يسدد ثمنها بعد. 

ويضيف بحرقة: "لم يعد لدينا أي شيء . أصبحنا تحت الصفر".

لا تزال أسرة خالة عدي يقيمون في مبنى مدرسة في صيدا، منذ نزوحهم من الضهيرة في بداية الحرب.

"يأتي مدير المدرسة صباح كل يوم ويطلب منهم الإخلاء، وهم ليس لديهم أي مكان آخر يذهبون إليه ومعظمهم نساء وأطفال،" يقول، "ما في رحمة في قلوب الناس، يتعاملون مع النازحين بقساوة". 

آلاف المزارعين في لبنان خسروا مزروعاتهم وماشيتهم وممتلكاتهم في حرب حزب الله وإسرائيل. 

يقدر البنك الدولي الخسائر في قطاع الزراعة اللبناني بقرابة 1.2 مليار دولار أميركي.

قرر حزب الله، الذي تصنفه واشنطن ضمن المنتظمات الإرهابية، خوض تلك الحرب، رغم الانهيار اقتصادي المستمر في لبنان منذ عام 2019. فزادت الحرب الطين بلّة.

خسر نحو 166 ألف لبناني وظائفهم بسبب الحرب، وهو ما يعادل انخفاضا في المداخيل قدره 168 مليون دولار أميركي.

مصائر النازحين

أكثر ما يؤلمني كنازح أن أحدا لا يشعر بمأساتي ومعاناة عائلاتي، يروي لموقع "الحرة"، بإحباط واضح في صوته. 

"في البداية كانت تصلنا مساعدات من اتحاد بلديات صور". لكن منذ بدء الهدنة لم يصله شيء من المساعدات. ولم يتمكن كذلك من الحصول على مساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعية .

"هل يعقل أن توزع المساعدات على عائلات في صور لم تنزح عن منازلها، فيما نحن النازحين من القرى الأمامية المدمرة لا نستلم شيئاً؟ أين المنطق؟".

"ربما لأني لا أنتمي لأي حزب،" يقول بتهكم، "لا أحد يهتم بحاجتي للمساعدات. أنا أنتمي للزراعة ولقمة العيش".

الآن، عدي دون منزل ولا يستطيع العودة إلى قريته.

اندثار الحلم.

منزل عديّ واحد من نحو 100 ألف وحدة سكنية تضرّرت كليا أو وجزئيا في تلك الحرب.

نحو 82 في المئة من أضرار الحرب تكبدها قطاع الإسكان في لبنان، بخسائر بلغت قيمتها 2.8 مليار دولار، بحسب البنك الدولي

أكثر المناطق تضررا محافظة النبطية، بنسبة 45 في المئة من إجمالي الأضرار في المناطق التي خضعت للتقييم، تليها محافظة الجنوب بنسبة 38 في المئة، ثم محافظة البقاع بنسبة 12 في المئة.

أكثر من 37 بلدة حدودية في الجنوب تدمرت بشكل واسع. ولم يتمكن بعد سكان عشرات القرى الجنوبية من العودة إلى قراهم، بعدما حذرهم الجيش الإسرائيلي من التوجه إليها.

وبرر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي في أواخر نوفمبر الماضي حظر العودة إلى "مخاوف تتعلق بالسلامة". 

وحدّد في تدوينة على إكس بخط أحمر على الخارطة، القرى التي يُمنع التوجه إليها أو إلى تلك الواقعة جنوبها.

قرية عدي، "الضهيرة" المحاذية للحدود الإسرائيلية، وردت على رأس تلك القائمة.

وهي قرية لبنانية صغيرة تضمّ 400 منزل، وتعدّ من "القرى الأمامية" في جبهات النزاع، كونها تبعد نحو 200 متر فقط عن الحدود مع إسرائيل.

لكن الحظر لم يردع عدي.

"أحاول كل يوم الذهاب إلى الضهيرة، وأتعرّض لإطلاق نار إسرائيلي. كل مرة أحاول، يطلقون الرصاص عليّ ولا أزال أحاول، لأني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن العودة الى قريتي".

عندما يذهب إلى هناك، يكتفي عدي بالتفرّج، ويمعن في التفكير "كيف سأجهز نفسي فيها، لا أريد الاستسلام، أريد العودة للزراعة". 

قبل النزوح، كان عديّ يخطط لبناء منزل لطفله، ابن العامين، ليخفف عنه هذه المشقّة عندما يكبر، ويمكّنه من التفرغ للدراسة.

الحرب غيّرت حساباته.

" أصبحت أمنيتي أن أمتلك حاوية بمساحة 20 مترا تؤويني أنا وعائلتي، لكي أرتزق من الزراعة".

أحلام مزارع جنوبي

منذ نعومة أظفاره، انخرط عدي في أعمال الزراعة، في قرية الضهيرة في جنوب لبنان.

مهنة تعلمها من والده، لأن ظروف عائلته المادية لم تسمح له بالدراسة والتحصيل العلمي.

"منذ صغري كنت أحلم ببناء بيت جميل في القرية، لأن البيت الذي نشأتُ فيه كان بحالة غير جيدة ويعاني مشاكل مثل تسرب الماء".

ويضيف بنبرة فخر "عملت منذ كان عمري 25 سنة، إلى أن بلغت 39 عاما حتى تمكنت من أن أبني بيت أحلامي".

بيتٌ أتقن عديّ عماره. جعل مساحته 300 متر مربع، وألبسه الحجر الصخري من الخارج، وزيّن جدرانه الداخلية بتصاميم من الجبص. كل شيء في المنزل اختاره بعناية فائقة. "كلفني على الورقة والقلم 137 ألف دولار أميركي"، يقول عدي.

كانت فرحته لا توصف عندما انتقل أخيرا إلى منزله الجديد في سبتمبر عام 2023. 

"بعد تعب 15 عاما في بناء المنزل، كان لدي خوف من أن يحصل شيء ما أو أن أموت قبل أن أهنأ بالعيش فيه".

يخبرني عدي عن قريته بأن "الناس في هذه القرية يعتمدون على الزراعة وخاصة التبغ والقمح، حالهم مثل حالنا، نزرع الآن لكي نبني لأولادنا، ونؤمّن لهم مستقبلهم كي لا يذوقوا العذاب الذي ذقناه نحن"، ويضيف "إن القرية تخلو من العناصر الحزبية".

مع ذلك، قلبت حرب حزب الله مع إسرائيل منزله، والقرية برمتها، رأسا على عقب.