إيران بعد سقوط الأسد
يواجه خامنئي مأزقاً سياسياً لا مثيل له في حياته السياسية الطويلة.

تهاوى وكلاؤها عند أول نزاع شامل في المنطقة، فيما يواجه مرشدها الأعلى مأزقاً غير مسبوق في تاريخه السياسي.

يرى متابعون لشؤون الشرق الأوسط أنها فشلت في الدفاع عن الموالين لها، فيما يرى آخرون أنها تخلت عنهم مقابل تفاهم يضمن بقاء النظام.

نكشف خفايا مثيرة عن طبيعة نفوذها وشبكات مؤيديها التي تواجه غضباً داخلياً وسياسة "الضغط الأقصى" لإدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.

فهل تظل طهران تحت تأثير صدمة سقوط نظام الأسد؟ أم أنها بدأت بالفعل في إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية؟

انهيار "الإمبراطورية"

لم يتردد عدد من كبار المسؤولين الإيرانيين في التحدث بحماس كبير خلال السنوات الأخيرة عن "السيطرة على عدة عواصم عربية".

إنفاق إيران على وكلائها في الشرق الأوسط سجل أرقاماً قياسية ما دفعها لاستخدام العراق كمصدر تمويل بديل.

لكن هذه "السيطرة" تواجه تحدياً وجودياً كبيراً عقب الانهيار السريع لنظام بشار الأسد، وتدمير جزء كبير من القدرات العسكرية لجماعة حزب الله في لبنان، المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة وعدة دول غربية.

التحدي اتخذ منحى تصاعدياً انطلاقاً من أبريل عام 2024، عندما بدأت كل من إيران وإسرائيل تبادل الضربات العسكرية المباشرة.

قبل ذلك، كانت إيران تتجنب الاشتباك المباشر مع القوات الإسرائيلية، فيما كان الجيش الإسرائيلي يركز أساساً على أهداف إيرانية داخل سوريا ولبنان.

الإيرانيون كانوا يعلمون منذ سنة على الأقل أن الأحداث في الشرق الأوسط لا تسير في صالحهم، وفق مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، أليكس فاتانكا.

أما أسلوب تراجعهم فيشير إلى تواجد خطط مسبقة لديهم للانسحاب، وفق فاتاناكا في حديثه مع موقع الحرة.

"الآن لم يقرروا بعد إن كانوا يريدون تقويض نظام دمشق الجديد أو الحصول على اتفاق معه، حتى لا يخسروا موقعهم في سوريا"، يضيف فاتاناكا.

إيران تبقي الباب مفتوحا

وفي الوقت ذاته، تحرص طهران على فتح قنوات اتصال، تسمح لها بإيصال رسائل إلى إدارة ترامب قصد تجنب أي تصعيد.

يلاحظ فاتنكا أن أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، كان في زيارة إلى طهران، وأن الدوحة قد تكون إحدى أهم المفاوضين لأنها قريبة من الجانبين.

كما شكّلت سلطنة عُمان لوقت طويل نقطة محورية للحوار بين طهران وواشنطن، وفق الناطق باسم نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق، انتفاض قنبر.

ويستدل على ذلك بالمباحثات غير المباشرة التي جمعت مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى بنظرائهم الأميركيين، من بينهم منسق البيت الأبيض السابق لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بريت ماكغورك.

قنبر الذي تحدث إلى موقع الحرة، يقول إن مصادر أميركية رفيعة المستوى أكدت له أن ترامب يريد إنهاء دور إيران في الشرق الأوسط.

نفس المصادر أكدت أن طهران بعثت عديد الرسائل السرية للتعبير عن استعدادها للتفاوض.

من جهته كرر ترامب رغبته في التوصل إلى اتفاق مع طهران بإمكانه تجنب أي تصعيد.

لكن السؤال الحقيقي، أو "سؤال المليون دولار" حسب قنبر، هو كيف سيقوم ترامب بذلك؟

شبكة سي إن إن الأميركية قالت إن السعودية منفتحة على القيام بوساطة بين طهران وإدارة ترامب، بغرض التوصل إلى اتفاق جديد بين الولايات المتحدة وإيران.

كبير مراسلي صحيفة جيروزاليم بوست لشؤون الشرق الأوسط، سيث فرانتزمان، يرصد أن السعودية تطمح للعب ذلك الدور، من أجل تعزيز حضورها الإقليمي.

"إن الولايات المتحدة قبلت الوساطة القطرية مع طالبان، رغم استضافة الدوحة للمتطرفين، في حين أن السعودية طردتهم سعياً لعلاقات أفضل مع الغرب، لكن تحركها قوبل ببرود"، استدرك فرانتزمان.

لكن الإيرانيين وقيادتهم ممثلة في شخص المرشد علي خامنئي "لم يكونوا أبداً في هذا الموقف، من ناحية الاختيارات السياسية المعقدة الخاصة بحسابات الربح والخسارة"، وفق فاتنكا.

موقف إيران التفاوضي يزداد ضعفاً لأن البلاد مفلسة اقتصادياً.

لذلك لا يمكن لطهران الوقوف بفعالية في وجه القوى الإقليمية مثل تركيا وإسرائيل والسعودية، فضلاً عن الولايات المتحدة.

أما العراق فأصبح نقطة محورية في المفاوضات المُفترَضة بين طهران وواشنطن.

لكن المفارقة تكمن في أن بغداد لا يمكن أن تكون وسيطاً يسهل المحادثات بين الطرفين.

قيود عقائدية تكبّل سياسة طهران 

يشرح قنبر الأسباب التي تعيق العراق عن لعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن.

فإيران، إيديولوجياً، تعتبر العراق جزءاً مما تسميها أدبيات نخبتها الحاكمة بمصطلح "الجمهورية الاسلامية"، حسب قنبر.

و"الجمهورية الإسلامية" لا تقتصر على حدود إيران فحسب، بل أيضاً العراق وسوريا ولبنان وعدة مناطق في الشرق الأوسط.

"النخبة الحاكمة في طهران لا تؤمن بالحدود الدولية، والعراق هو جزء من الإمبراطورية الإسلامية الإيرانية"، حسب قنبر.

وذلك ما يجعل العراق الحديقة الخلفية لإيران، ما ينزع أي مصداقية لمبادرات بغداد الدبلوماسية.

رؤية النخبة الحاكمة في طهران لبغداد على أنها كيان سياسي تابع لها، تتجاوز العراق إلى باقي الدول العربية.

فاتنكا يشرح ذلك، فمنذ بداية الثورة الإسلامية في إيران، اعتبر آية الله الخميني أن الأنظمة العربية، خصوصاً الملكية منها مثل المغرب والسعودية وباقي دول الخليج، أنظمة "غير شرعية" لأنها متحالفة مع الغرب.

لذلك رأت "الجمهورية الإسلامية" وحلفاؤها ضرورة العمل على إسقاط تلك الأنظمة بأي ثمن.

جسر نحو بيروت بتمويل عراقي

نجاح المجموعات المسلحة الموالية لإيران بالتغلغل في الأوساط العراقية، فتح الباب أمام الخطوة الموالية للحرس الثوري الإيراني.

والخطوة الموالية لفيلق القدس كانت في سوريا.

أليكس فاتنكا يشرح الأبعاد الجيوسياسية لذلك، بأن اعتماد إيران على سردية "مساعدتها للحكومة السورية في محاربة المتطرفين السنة" كانت مقامرة سياسية.

الهدف الرئيسي لتلك المقامرة كان بناء "جسر نحو بيروت".

يؤكد فاتنكا أن إيران لم تحارب داعش المتمركز أساساً في شرق سوريا.

طهران ركزت بدلاً عن ذلك على العاصمة، دمشق.

وبذلك أصبح ما يعرف بـ "الهلال الشيعي" متصلاً جغرافياً، ما مكّن طهران من دعم أكبر وكلائها في المنطقة، وهو جماعة حزب الله في لبنان.

لكن استمرار الحرب الأهلية في سوريا جعل الحفاظ على ذلك "الهلال" أمراً بالغ الصعوبة.

خامنئي استدعى كل القيادات الشيعية، عام 2014، وقال لهم: "نحن صرفنا 11 مليار دولار في سوريا"، حسب قنبر.

وإيران لا تستطيع سداد تلك الأموال، لذلك على العراق دفع كلفة الحرب في سوريا ومصاريف حزب الله في لبنان.

تشير التقديرات الأميركية، إلى أن طهران أنفقت أكثر من 16 مليار دولار على حربها وكلائها، خلال الفترة الممتدة بين 2012 و2020.

يكشف ذلك الرقم انخفاض وتيرة إنفاق طهران على وكلائها، وتحول العراق إلى المموِّل الرئيسي للمشروع الإيراني في سوريا ولبنان.

ولقيادة تلك الجهود، استقدمت طهران شخصية مركزية من حزب الله اللبناني، وهو محمد كوثراني.

عمل كوثراني بنشاط لصالح الحرس الثوري الإيراني داخل العراق عقب سقوط نظام صدام.

كوثراني لعب دوراً محورياً في تنسيق أنشطة إيران في العراق.

وفي 22 أغسطس 2013، صنفت وزارة الخارجية الأميركية كوثراني كـ "إرهابي عالمي".
الخارجية الأميركية رصدت مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار، في إطار برنامج "مكافآت من أجل العدالة"، للإدلاء بمعلومات حول نشاطاته.

حزب الله اللبناني أتاح لإيران إدارة الجماعات الشيعية في العراق، وعمل على تسخير المؤسسات الإدارية والمالية العراقية لخدمة إيران تحت إشراف قاسم سليماني، حسب قنبر.

لكن طموح سليماني لجعل العراق "جمهورية إسلامية" مثل إيران كان له كلفة عالية. تلك الكلفة تضمنت حياته.
الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أعلن مقتل سليماني في غارة جوية أميركية عام 2020.

وما سيأتي بعد ذلك سيمهد لـ "انهيار أحجار الدومينو" الإيرانية. 

7 أكتوبر.. لحظة مفصلية

لم تكن إسرائيل مستعدة لمواجهة هجوم ضخم ومباغت، مثلما حدث في السابع من أكتوبر 2023.
طهران ووكلاؤها بنوا حساباتهم على ذلك الأساس.

ليس فقط الوكلاء، بل حلفاء إيران كذلك كانوا منخرطين في العملية.

تحقيقات الجيش الإسرائيلي المنشورة في 27 فبراير، بيّنت "انهيار التصورات الأمنية التي اعتمدتها إسرائيل على مدى سنوات".

تلك التصورات كانت تقوم على اعتبار حركة حماس عدواً ثانوياً، والمراهنة على إمكانية ردعها عبر تحسين ظروف العيش داخل قطاع غزة.

ومن اللافت أن تحقيقات الجيش الإسرائيلي خلصت إلى أن "إدارة الصراع" لم تعد استراتيجية فعالة.
وذلك يعني أن إسرائيل لم تعد تقبل التعايش مع وكلاء إيران في المنطقة، وأصبحت تسعى لإنهاء الصراع عبر "حلول جذرية".

تقدير الموقف الإيراني لم يأخذ بعين الاعتبار خصوصية النظام السياسي الإسرائيلي، ودور رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو.

إسرائيل انتقلت إلى مرحلة استعادة التفوق، عبر تدمير البنية العسكرية لكل من حماس وحزب الله.

الانهيار السريع لأحجار الدومينو الإيرانية في الشرق الأوسط لا يعود فقط إلى الأسباب العسكرية أو الأمنية.

غياب الرؤية لمرحلة ما بعد الحرب، والفشل في تقديم نموذج اقتصادي واجتماعي فعال، جعل "إمبراطورية" إيران هيكلاً هشاً، حسب أليكس فاتنكا.

الإيرانيون أنفسهم سئموا من انخراط حكومتهم في مشاريع خارجية مكلفة.

ولأن طهران تواجه عقوبات دولية، لا يمكن لشركاتها منافسة الشركات العالمية، وهي بحاجة إلى إيجاد حالة من الفوضى تسمح لها بالعمل.

تحركات بعد الأسد

خامنئي نفسه يواجه مأزقاً لم يألفه من قبل. فإذا اختار التصعيد سيصطدم بالغرب وينتهي نظامه، أما إذا قرّر التراجع فسيخسر ما تبقى من قواعده الشعبية.

والغضب الشعبي يتزايد يوميا، في ظل شلل متصاعد للإدارة الحكومية.

آخر مظاهر الفشل الحكومي كان الانقطاع المتكرر للكهرباء على مناطق واسعة، من بينها العاصمة طهران.

مزيج خطير من سوء الإدارة والتأثير المتصاعد للعقوبات أدى إلى انهيار تدريجي للخدمات في إيران.

الاحتجاجات لم تعد سياسية فقط، بل طالت نواحي الحياة اليومية.

رد فعل السلطات في طهران اقتصر على بدء إجراءات إقالة وزير الاقتصاد، وتبادل الاتهامات بين كبار المسؤولين.

كما قررت طهران تنظيم مناورات عسكرية كبيرة أطلقت عليها اسم "ذو الفقار" من أجل استعراض قوتها العسكرية، وهي جزء من عدة مناورات تجريها طهران بالاسم ذاته.

لكن مناورات "ذو الفقار" الأخيرة التي جاءت عقب سقوط نظام الأسد، والتحركات العسكرية الأميركية في المنطقة حملت طابعا خاصا.

الدكتور سعيد غولكار،أستاذ العلوم السياسية في جامعة تينيسي الأميركية، يقول إن المناورات العسكرية الإيرانية الأخيرة شهدت تغييراً جذرياً في الصورة التي تريد طهران إيصالها إلى العالم.

خلافاً للمرات السابقة حيث كانت السرية تطغى على نشاطات الجيش والحرس الثوري، كان الإعلام الإيراني حاضراً بقوة عبر تغطية غير مسبوقة للعمليات العسكرية.

الصورة الجديدة للقوات الإيرانية تريد طهران من خلالها التغطية على فشلها العسكري الأخير ضد إسرائيل.

فالهجمات الصاروخية الإيرانية خلال العام الماضي لم تسفر عن خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي.

بل على العكس من ذلك، نجحت إسرائيل في تحييد أهم منظومات الدفاع الجوي الإيراني خلال ردها على الهجمات الإيرانية.

ومن خلال مناوراتها الأخيرة أرادت إيران أن تقول إنها لا تزال تملك أسلحة فعالة في ترسانتها، حسب غولكار.

ويظل هاجس إيران هو تجنب تأثير العقوبات الأميركية سعياً لتقليل الخسائر الاقتصادية، ومحاولة الإبقاء على حضورها في المنطقة.

"لن يكون هناك تغيير في العلاقات الإقليمية حتى تبدأ طهران في التغيير الحقيقي"، حسب فاتنكا.

ويرى أن ذلك يقتضي أن تصبح إيران دولة تركز على تنميتها الذاتية، عندها ستكون قادرة على مواجهة الأزمة التي تعصف بها داخلياً.

النازحون اللبنانيون
آلاف النازحين فقدوا منازلهم وتـُركوا لمصيرهم

بعد أقل من شهر على انتقال عدي وعائلته إلى منزلهم الجديد، الذي استغرق بناؤه 15عاما؛ انقلبت حياتهم رأسا على عقب.

فتحت جماعة حزب الله في 8 أكتوبر جبهة الجنوب على إسرائيل تحت شعار "حرب الإسناد" لقطاع غزة.

قرار الحزب مساندة حماس في مواجهة الجيش الإسرائيلي، كلّف اللبنانيين غير المعنيين بالحروب آلاف الأرواح، وترك مئات آلاف آخرين من دون سند.

وتكبد لبنان جراء الحرب خسائر اقتصادية ومادية بنحو 8.5 مليار دولار أميركي، بحسب تقييم البنك الدولي.

أما عدي، فقد تبعثرت عائلته، لكن المعاناة لم تتوقف عند هذا الحد.

نزحت زوجته وطفلاه برفقة أهله، من مزرعتهم في قرية "الضهيرة،" إلى مخيم الرشيدية، شرقي مدينة صور، في الجنوب. وتلك كانت أول محطة في رحلة نزوح طويلة تكبدها هو وأسرته.

بدايةً، صعُبت عليه فكرة النزوح بعيدا والتخلي عن مزروعاته.

قرر البقاء لوحده في القرية.

"كانت لدي مزروعات حبوب على مساحة 36 ألف متر، إضافة إلى مساحات من مساكب الدخان"، يقول عدي لموقع "الحرة".

ولأن منزله قريب جدا من الحدود، ويقع مقابل تلة "الجرداح" الإسرائيلية، انتقل عديّ للعيش في منزل جدّه في منطقة قريبة اعتبرها أكثر أمانا.

وتشكل تلة "الجرداح" نقطة تموضع لأفراد الجيش الإسرائيلي وآلياته.

بعد مرور خمسة أشهر، استهدفت غارة إسرائيلية منزلا مجاورا، وبفعل ضغطها القوي الساخن ارتفع عدي مسافة في الهواء، وسقط على أريكة.

"في تلك اللحظة،" يقول عدي، "فقدت الأمل في الزراعة بصراحة، ونزحت".

انضم إلى عائلته التي كانت قد انتقلت من مخيم الرشيدية إلى منزل شقيقته في صيدا، جنوبي لبنان.

بعد نحو عام من عمر الحرب، اشتدّ القصف على صيدا أيضا، فنزح ثانية مع العائلة إلى منزل بالإيجار في منطقة في بنين - قضاء عكار شمالي لبنان.

توسّعت الحرب، واستُهدفت بنين أيضا بغارات جوية.

حزمت العائلة أشياءها ونزحت - في نفس المنطقة هذه المرة - إلى بلدة خربة داوود القريبة من الحدود السورية.

لاحقتهم الغارات إلى هناك. إذ استهدفت إسرائيل المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، بكثافة، لقطع الإمدادات عن حزب الله.

أصبحت العائلة عرضة لخطر الصواريخ والمقذوفات. فنزحت، للمرة الخامسة، إلى الجنوب، لتستقر في بلدة القاسمية الساحلية، المحاذية لمدينة صور.

فداحة الخسائر

ما سميت بـ"حرب الإسناد"، لم توقف الحرب في غزة. 

وأسفرت عن مقتل ستة آلاف شخص في لبنان ـ يرجح أن معظمهم مدنيون ـ بحسب أحدث إحصائية "للمؤسسة الدولية للمعلومات".

تسببت الحرب كذلك في نزوح داخلي لأكثر من 875 ألف شخص. وكانت ظروف النزوح أقسى على النساء والأطفال والمسنين والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة واللاجئين.

خلال ترحاله مع العائلة، استأجر عدي أرضا في بلدة "القليلة" جنوبي صور، زرعها مساكب دخان (تبغ)، ويعتزم نقل هذا الشتل إلى بلدته. 

لكن خطته هذه، تحدّها عقبات.

أحلام تبخرت

نصيب قرية عدي من الحرب دمار مهول. عدي عاينها بنفسه. 

القرية "مدمّرة بالكامل. سُوّيت كلها بالأرض. لم يعد فيها أي سقف ولا حتى زاوية. المدارس، المساجد، المباني البلدية، الآبار الأرتوازية، كل شيء مدمر" بما في ذلك منزله الجديد، يقول.

"بيتي تدمّر بالكامل ما بقي منه أي شيء".

ليس المنزل فحسب. "جرفوا بساتين الأفوكادو والزيتون كلها، ما بقي عندي ولا شجرة واحدة".

ليس هذا فحسب. خسر أيضا آلياته الزراعية. 

"كان عندي تراكتور (جرارة) كبير و آخر صغير، احترقت، كانت تساوي 25 ألف دولار". لم يسدد ثمنها بعد. 

ويضيف بحرقة: "لم يعد لدينا أي شيء . أصبحنا تحت الصفر".

لا تزال أسرة خالة عدي يقيمون في مبنى مدرسة في صيدا، منذ نزوحهم من الضهيرة في بداية الحرب.

"يأتي مدير المدرسة صباح كل يوم ويطلب منهم الإخلاء، وهم ليس لديهم أي مكان آخر يذهبون إليه ومعظمهم نساء وأطفال،" يقول، "ما في رحمة في قلوب الناس، يتعاملون مع النازحين بقساوة". 

آلاف المزارعين في لبنان خسروا مزروعاتهم وماشيتهم وممتلكاتهم في حرب حزب الله وإسرائيل. 

يقدر البنك الدولي الخسائر في قطاع الزراعة اللبناني بقرابة 1.2 مليار دولار أميركي.

قرر حزب الله، الذي تصنفه واشنطن ضمن المنتظمات الإرهابية، خوض تلك الحرب، رغم الانهيار اقتصادي المستمر في لبنان منذ عام 2019. فزادت الحرب الطين بلّة.

خسر نحو 166 ألف لبناني وظائفهم بسبب الحرب، وهو ما يعادل انخفاضا في المداخيل قدره 168 مليون دولار أميركي.

مصائر النازحين

أكثر ما يؤلمني كنازح أن أحدا لا يشعر بمأساتي ومعاناة عائلاتي، يروي لموقع "الحرة"، بإحباط واضح في صوته. 

"في البداية كانت تصلنا مساعدات من اتحاد بلديات صور". لكن منذ بدء الهدنة لم يصله شيء من المساعدات. ولم يتمكن كذلك من الحصول على مساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعية .

"هل يعقل أن توزع المساعدات على عائلات في صور لم تنزح عن منازلها، فيما نحن النازحين من القرى الأمامية المدمرة لا نستلم شيئاً؟ أين المنطق؟".

"ربما لأني لا أنتمي لأي حزب،" يقول بتهكم، "لا أحد يهتم بحاجتي للمساعدات. أنا أنتمي للزراعة ولقمة العيش".

الآن، عدي دون منزل ولا يستطيع العودة إلى قريته.

اندثار الحلم.

منزل عديّ واحد من نحو 100 ألف وحدة سكنية تضرّرت كليا أو وجزئيا في تلك الحرب.

نحو 82 في المئة من أضرار الحرب تكبدها قطاع الإسكان في لبنان، بخسائر بلغت قيمتها 2.8 مليار دولار، بحسب البنك الدولي

أكثر المناطق تضررا محافظة النبطية، بنسبة 45 في المئة من إجمالي الأضرار في المناطق التي خضعت للتقييم، تليها محافظة الجنوب بنسبة 38 في المئة، ثم محافظة البقاع بنسبة 12 في المئة.

أكثر من 37 بلدة حدودية في الجنوب تدمرت بشكل واسع. ولم يتمكن بعد سكان عشرات القرى الجنوبية من العودة إلى قراهم، بعدما حذرهم الجيش الإسرائيلي من التوجه إليها.

وبرر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي في أواخر نوفمبر الماضي حظر العودة إلى "مخاوف تتعلق بالسلامة". 

وحدّد في تدوينة على إكس بخط أحمر على الخارطة، القرى التي يُمنع التوجه إليها أو إلى تلك الواقعة جنوبها.

قرية عدي، "الضهيرة" المحاذية للحدود الإسرائيلية، وردت على رأس تلك القائمة.

وهي قرية لبنانية صغيرة تضمّ 400 منزل، وتعدّ من "القرى الأمامية" في جبهات النزاع، كونها تبعد نحو 200 متر فقط عن الحدود مع إسرائيل.

لكن الحظر لم يردع عدي.

"أحاول كل يوم الذهاب إلى الضهيرة، وأتعرّض لإطلاق نار إسرائيلي. كل مرة أحاول، يطلقون الرصاص عليّ ولا أزال أحاول، لأني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن العودة الى قريتي".

عندما يذهب إلى هناك، يكتفي عدي بالتفرّج، ويمعن في التفكير "كيف سأجهز نفسي فيها، لا أريد الاستسلام، أريد العودة للزراعة". 

قبل النزوح، كان عديّ يخطط لبناء منزل لطفله، ابن العامين، ليخفف عنه هذه المشقّة عندما يكبر، ويمكّنه من التفرغ للدراسة.

الحرب غيّرت حساباته.

" أصبحت أمنيتي أن أمتلك حاوية بمساحة 20 مترا تؤويني أنا وعائلتي، لكي أرتزق من الزراعة".

أحلام مزارع جنوبي

منذ نعومة أظفاره، انخرط عدي في أعمال الزراعة، في قرية الضهيرة في جنوب لبنان.

مهنة تعلمها من والده، لأن ظروف عائلته المادية لم تسمح له بالدراسة والتحصيل العلمي.

"منذ صغري كنت أحلم ببناء بيت جميل في القرية، لأن البيت الذي نشأتُ فيه كان بحالة غير جيدة ويعاني مشاكل مثل تسرب الماء".

ويضيف بنبرة فخر "عملت منذ كان عمري 25 سنة، إلى أن بلغت 39 عاما حتى تمكنت من أن أبني بيت أحلامي".

بيتٌ أتقن عديّ عماره. جعل مساحته 300 متر مربع، وألبسه الحجر الصخري من الخارج، وزيّن جدرانه الداخلية بتصاميم من الجبص. كل شيء في المنزل اختاره بعناية فائقة. "كلفني على الورقة والقلم 137 ألف دولار أميركي"، يقول عدي.

كانت فرحته لا توصف عندما انتقل أخيرا إلى منزله الجديد في سبتمبر عام 2023. 

"بعد تعب 15 عاما في بناء المنزل، كان لدي خوف من أن يحصل شيء ما أو أن أموت قبل أن أهنأ بالعيش فيه".

يخبرني عدي عن قريته بأن "الناس في هذه القرية يعتمدون على الزراعة وخاصة التبغ والقمح، حالهم مثل حالنا، نزرع الآن لكي نبني لأولادنا، ونؤمّن لهم مستقبلهم كي لا يذوقوا العذاب الذي ذقناه نحن"، ويضيف "إن القرية تخلو من العناصر الحزبية".

مع ذلك، قلبت حرب حزب الله مع إسرائيل منزله، والقرية برمتها، رأسا على عقب.