وجوه وقضايا

"دماء جزائرية" في عروق كاليدونيا

عبد النبي مصدق- واشنطن
06 مارس 2025

" قولوا لأمي ما تبكيش.. يا المنفي"
"ولدك ربي ما يخليهش.. يا المنفي" (إن الله لن يتخلى عن ولدك)

إذا كنت من سكان دول شمال أفريقيا أو حتى بعض دول المشرق القريبة منها فإنه يصعب ألا تكون قد استمعت أو على الأقل صادفتك أغنية "يا المنفي".

من تلحين الفنان الجزائري، آكلي يحياتن، واشتهرت على مدى أوسع مع الثلاثي، رشيد طه وفوضيل والشاب خالد.

الكلمات توثق أوجاع منفيين اقتلعوا من وطنهم، وفكرة واحدة تجول في خواطرهم، الحرية.

لكن ما قصة هذه الأغنية؟ وما علاقتها بجزيرة "كاليدونيا الجديدة" الفرنسية التي تبعد عن الجزائر أكثر من 17 ألف كيلومتر؟ وما حكاية آلاف الجزائريين الذين نفتهم فرنسا الاستعمارية عن بلدهم الأم؟

"يا المنفي"

لا تتفق المصادر التاريخية بشأن هوية كاتب "يا المنفي" لكن ما هو محل إجماع هو تحولها مع مرور الزمن إلى أيقونة للتحرر من الاستعمار.

تقول روايات متداولة إن كاتب الأغنية، منفي جزائري أبعدته السلطات الفرنسية عن وطنه نحو كاليدونيا الجديدة.

واستمر الاحتلال الفرنسي للجزائر نحو 132 عاما (1830 إلى 1962)، تاركا خلفه ملايين القتلى والمصابين، وفق الرواية الرسمية الجزائرية.

لكن"جرائم الاستعمار الفرنسي" في الجزائر لا تقتصر على القتل وتفكيك الأراضي واستغلال الثروات بل تشمل ما "أوجع" من ذلك وهو"النفي من الوطن".

كاليدونيا الجديدة، هي إقليم فرنسي شبه مستقل، تبسط الدولة الفرنسية سيادتها عليه في مجالات الدفاع والشؤون الخارجية والقانون والسياسة النقدية والتعليم العالي والبحث العلمي وغيرها.

وجهات عديدة نُفي إليها الجزائريون، بينها مستعمرات فرنسية مثل كايان وكاليدونيا الجديدة.

وفي قلب المحيط الهادئ يبتعدون تدريجيا آلاف الكيلومترات عن دفء الوطن.

ثم أتت "يا المنفي" لتعكس معاناة المنفيين الجزائريين إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة.

"قلبي وشداك تعيف.. يا المنفي"، أي "يا قلبي لماذا تشمئز؟"
"والصوبة (الحساء) دايما كيف كيف (هو هو لم يتغير).. يا المنفي"
"الجاميلة (الإناء) مغمور بالماء.. يا المنفي"
"الجريلو عايم (الخنافس تعوم) فيها.. يا المنفي"

رحلة آلاف الأميال

"الاشمئزاز" هذا بدأ بسفن كبرى تحرّكت حاملة أقفاصا ابتلعت محتجزيها على عجل ليغيبوا نحو النصف الآخر من الكرة الأرضية.

وبذلك انطلقت أولى عمليات ترحيل الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة عام 1864 بحسب ما يذكره كريستوفر ساند، وهو كاتب وباحث أركيولوجي في كاليدونيا وحفيد لأحد المنفيين الجزائريين.

التُهم التي وجهتها فرنسا إلى الجزائريين المنفيين تنوّعت فأدين البعض بـ "القتل" و"السرقة" و"الاغتصاب" و"المشاركة في أعمال العنف" ضد الفرنسيين وغيرها.

ساند ألّف كتابا حول هذه القضية بعنوان "كاليدون"، وقدّر أعداد المرحلين من شمال أفريقيا إلى كاليدونيا الجديدة بنحو 2100 شخص نحو 91 بالمئة منهم قدموا من الجزائر فيما ينتمي الباقون إلى تونس والمغرب.

وقبل حفر قناة السويس في مصر، يقول ساند في تصريح لموقع "الحرة" إن بعض الرحلات من الجزائر إلى فرنسا استمرت نحو خمسة أشهر قبل أن تتقلص المدة في ما بعد إلى نحو شهرين عقب افتتاح القناة عام 1869.

تفاصيل مريرة يسردها ساند عن رحلة المُبعَدين عن بلدهم.

"وضعتهم السلطات في أقفاص ضيقة أسفل السفينة في درجات حرارة منخفضة، وقدموا لهم النبيذ ولحم الخنزير المقدد كغذاء، وهو ما يتناقض مع عقيدتهم الإسلامية".

وفي الرحلات الطويلة إلى كاليدونيا الجديدة، مات كثيرون، لكن السجلات والأرشيفات لا تحدد عددهم بالضبط، يقول ساند.

الوصول إلى شواطئ الجزيرة لا يعني انتهاء المعاناة، فهناك تبدأ فصول أخرى من التعذيب النفسي والجسدي، وفق ما يذكره الباحث الجزائري، الصديق التاوتي.

يصف تاوتي في كتابه المعنون بـ"المُبعدون إلى كاليدونيا الجديدة" ظروف "اعتقال" الجزائريين في هذه المنطقة بـ"المريرة بشكل لا يُتصور".

"كان المسجونون رهن نزوات الحراس وتحت تصرفهم الكامل، وقد علمت أن الحراس كانوا يلعبون الورق برؤوس المساجين، فكان على الخاسر أن يقتل أحد المساجين الذي يُعيَّن قبل اللعب".

مُنع المنفيون أيضا من إطلاق الأسماء العربية على أبنائهم، لمحو أي ارتباط مع وطنهم الأم، وفق الكاتب ذاته.

اهتمام تاوتي بقصص المنفيين الجزائريين في كاليدونيا، بدأ عندما كان في سبعينيات القرن الفائت مسؤولا بالبنك الإسلامي للتنمية.

في إحدى المؤتمرات، أخبره مسلم أسترالي بوجود أقلية من أصل جزائري مقيمة في كاليدونيا الجديدة ما دفعه إلى السفر هناك، ليتحول منذ ذلك الوقت إلى مرجع في دراسة قضاياهم.

أطلال قصص منسيّة

لا تخلو قصة كل مُبعد جزائري نحو كاليدونيا الجديدة من الألم والمعاناة، لكن القليل منها فقط وصل إلى أيدي المؤرخين والباحثين في مسارات هذه القضية.

من بين أكثر الحكايا تراجيدية، يذكر ساند قصة محمد بنعيطة الذي وصل هناك عام 1867، ليقضي عقوبة بالسجن تزيد عن ثلاثة عقود.

قضى محمد هذه الفترة الطويلة في التخطيط للهروب من سجنه داخل هذه الجزيرة البعيدة.

انتقل للتنفيذ، فشل في ذلك ثماني مرات حيث وقعت عليه أعين الحراس، ليعيدوه إلى زنزانته.

وفي عام 1903، اختفى محمد نهائيا، ربما وصل إلى نيوزيلندا أو أستراليا أو الجزائر أو ربما يكون قد مات.

يسرد ساند، معاناة الكثير من الجزائريين بسبب منعهم من اصطحاب أبنائهم أو زوجاتهم إلى منفاهم.

يقدِّر ساند عائلات المنفيين من الجزائر الذين بقوا في وطنهم بنحو 3 آلاف من الأطفال والزوجات.

لم تسمح للسلطات الفرنسية لمعظم المنفيين بالعودة إلى وطنهم وأحضان عائلاتهم، فاضطر هؤلاء إلى بدء حياة جديدة.

هناك، كونوا أسرا جديدة تزوجوا فرنسيات أو نساء من "الكاناك" وهم السكان الأصليون لكاليدونيا الجديدة.

وبعد هذا الوقت الطويل، يقدّر ساند عدد سكان كاليدونيا الجديدة الذين تسري في عروقهم "دماء جزائرية" بأكثر من 50 ألف شخص.

نجح الكثير منهم في خط قصص نجاح مُدوّية في قطاعات الرياضة والصناعة والخدمات والتعليم وغيرها.

وإلى اليوم، يحتفظ بعض أحفاد المنفيين الجزائريين بأسماء عربية أو أمازيغية فيما لا يزال جزء منهم يدين بالإسلام.

العودة إلى الجذور

بعد أزيد من قرن، نبش بعض أحفاد المنفيين الجزائريين في تاريخ أجدادهم وقرروا العودة إلى وطنهم.

يقول ساند إنه انطلاقا من عام 2005 تم تنظيم خمس رحلات إلى الجزائر، تعرف خلالها أحفاد جزائريين على أقارب لهم في هذا البلد المغاربي.

بين هؤلاء ساند، الذي عثر على أقارب له في "العزازقة" بمنطقة القبائل الجزائرية.

"مات كل إخوة جدي، لكن أحفادهم يتذكرون قصة عمهم جيدا".

اعترفت الجزائر بأحفاد المنفيين إلى كاليدونيا الجديدة، وحصل بعضهم على جوازات سفر.

قبِل بعضهم العرض، ورفض آخرون بينهم ساند ذلك، مبررا ذلك بأن "الجزائريين ضحوا بالكثير للحصول على استقلال بلدهم، فيما لم أشعر بأن لي الشرعية التامة لامتلاك هذا الجواز".

ومع تكرار الزيارات، توطدت علاقات ذوي المنفيين بشدة مع وطن أجدادهم، وتزوج بعضهم من جزائريات.

وفي مايو المقبل، ينوي ساند ومجموعة أخرى من أحفاد الجزائريين زيارة بلدهم لرؤية الأقارب هناك.

يقول ساند واصفا اللحظة الأولى التي التقى بها أقاربه عام 2005: "نملك الملامح ذاتها ولم أكن بحاجة لاختبارات الحمض النووي لإثبات قرابتي بهذه العائلات".

تنتهي الأغنية:

"اصبري يا أمي ما تبكيش.. يا المنفي"
"ولدك ربي ما يخليهش.. يا المنفي"

عبد النبي مصدق

وجوه وقضايا

الجانب المظلم من حقيقة الذكاء الاصطناعي

الحرة / خاص - واشنطن
21 مارس 2025

لتقنيات الذكاء الاصطناعي أثر إيجابي على كثير من مجالات حياتنا اليومية، لكن ما قد يخفى عن كثيرين هو تأثيراتها الضارة على الحياة بشكل عام: الحياة على هذا الكوكب.

استهلاك شركة مايكروسوفت من الكهرباء في عام 2023، على سبيل المثال، تجاوز 24 تيراواط، أي أكثر من استهلاك بلد مثل الأردن، أو حتى السعودية.

ويزيد الاستخدام المفرط للطاقة غير النظيفة لإنتاج الكهرباء من تداعيات الانبعاثات الضارة على البيئة. 

إلى جانب الكهرباء، يستخدم قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من المياه لتبريد الأجهزة المعالجة للخوارزميات المعقدة.

الجبهة الأمامية

مراكز البيانات هي الجبهة الأمامية في الصراع نحو تصدر مجال الذكاء الاصطناعي.

هذه المراكز ليست حديثة العهد، فقد أُسس أول مركز معني بالبيانات في جامعة بنسلفانيا الأميركية عام 1945 لدعم ما عُرف حينها كأول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض، "ENIAC" اختصارا.  

هذه المراكز هي العمود الفقري للحوسبة الحديثة المعنية بتخزين كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها.

تلك البيانات تكفل استمرار تشغيل كافة المواقع العاملة عبر شبكة الإنترنت، ما يسهل عمل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.

لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، التوليدي منه تحديدا، مثل خدمات "تشات جي.بي.تي" و"جيميناي" مثلا، غيّر "دراماتيكيا" في عمل مراكز البيانات، وفقا لمقال نشره معهد ماساتشوستس للتقنية "أم آي تي". 

واليوم، تتكون تلك المراكز من بنايات صناعية كبيرة، في داخلها مجموعة من الأجهزة الإلكترونية الضخمة.

داخل تلك البنايات هناك أجهزة تخزين البيانات الرقمية وخوادم الاتصالات والحوسبة السحابية، التي تمكن من تخزين ومعالجة البيانات.

بين عامي 2022 و 2023 ارتفعت متطلبات مراكز البيانات من الطاقة، في أميركا الشمالية، من 2,688 ميغاواط إلى 5,341 ميغاواط، وفق تقديرات علماء.

جزء من هذا الارتفاع مرتبط بالاحتياجات التي فرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق "أم آي تي".

عالميا، بلغ استهلاك مراكز البيانات من الطاقة، في عام 2022، 460 تيراواط.

وتحتل مراكز البيانات المرتبة 11 بين الأكثر استهلاكا للكهرباء سنويا حول العالم، وهي مرتبة وسط بين فرنسا (463 تيراواط) والسعودية (371 تيراواط)، وفقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وبحلول 2026، تشير "أم آي تي"، إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء قد يصل إلى 1,050 تيراواط، ما قد يرفعها إلى المرتبة الخامسة، بين اليابان وروسيا.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده ليس العامل الوحيد، يوضح المعهد التقني، لكنه "دافع أساسي" باتجاه زيادة الطلب على الطاقة والمياه. 

تستخدم تلك المراكز كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية، وتكون لديها مصادر طاقة بديلة عند انقطاع التزويد أو في حالات الطوارئ، ما يمكّنها من الاستمرار في العمل.

لكن توفير الطاقة الكافية لتشغيل تلك المراكز أصبح تحديا في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قدّم خطة لتطوير الطاقة النووية في الولايات المتحدة تحظى بدعم لافت من جمهوريين وديمقراطيين على حد السواء، وقد تشكل الحل الأكثر رفقا بالبيئة.

البروفسور آناند راو من جامعة كارنيغي ميلون أوضح لموقع "الحرة" أنه بالإضافة إلى الاستخدام المكثف للطاقة الكهربائية، ظهرت معضلة جديدة أمام تلك المراكز.

الأجهزة الإلكترونية الضخمة التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة ترتفع حرارتها إلى درجات عالية جدا، ما يؤثر على قدرتها، وقد يؤدي حتى إلى تلفها.

قد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة، ولكن على عكس حاسوبك الصغير الذي يستعمل مروحة أو اثنتين لتبريد رقاقاته الإلكترونية، تستخدم أجهزة مراكز البيانات الماء للتبريد.

تدخل آلاف الغالونات من الماء إلى مبادل حراري يشغل شبكة ضخمة ومتشعبة من الأنابيب والمبردات تمتد إلى كافة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، دون أن يلامس الماء، طبعا، أيا من الدارات الكهربائية.

ومثلما هو الحال بالنسبة للكهرباء، يضع استهلاك تلك الكميات الكبيرة من الماء ضغطا كبيرا على الموارد المحلية للمنطقة حيث تكون مركز البيانات.

بات من الواضح أن استدامة عمل تلك المراكز أصبحت مرتبطة بتأمين موارد كبيرة من الكهرباء والماء.

لكنّ هناك حلولا أخرى، بحسب البروفيسور راو، مثل استخدام النيتروجين للتبريد عوضا عن الماء.

رغم أن النيتروجين متوفر بكميات كبيرة، إذ يمثل نحو 78 في المئة من الهواء في الغلاف الجوي للأرض، فإن استخدامه للتبريد مكلف كثيرا، ما يجعل الماء خيارا اقتصاديا أفضل.

حلول مبتكرة تعيقها "الهلوسة"

عوضا عن بذل جهد كبير في محاولة تبريد الأجهزة الإلكترونية، لماذا لا يتم استخدام أجهزة تطلق حرارة أقل، ما يعني بالضرورة أنها تستهلك كمية أقل من الطاقة؟

قد يخيل إليك أن هذه فكرة مثالية بعيدة عن الواقع، ولكن، مرة أخرى، يتحول الخيال إلى حقيقة.

تجري منذ مدة أبحاث تهدف لتطوير ما اصطلح على تسميته بحواسيب الكوانتوم التي تُعرف أيضاً باسم الحواسيب الكمومية.

اعتماد هذا النوع من الحواسيب على "فيزياء الكم" جعلها قادرة على القيام بعدد ضخم من الحسابات في وقت قصير ما جعلها تستخدم كمية طاقة أقل.

البيانات المعروفة بالإنكليزية بكلمة "بايت" وتعتمد نظام الرياضيات الثنائي المكون من رقمين هما 0 و1، وهو النظام المستخدم في الحواسيب.

لكن حواسيب الكم تعتمد على "الكيوبتات"، التي بإمكانها أن أن تكون في حالتي 0 و1 في نفس الوقت، وهو ما يعرف باسم التراكب الكمومي.

مكنت تلك الخاصية الفريدة هذه الحواسيب من إظهار قدرة كبيرة على فك المعادلات المعقدة وتقديم أجوبة متطورة على أسئلة مركبة، عبر معالجة العديد من المعادلات والمسائل في نفس الوقت.

وبالطبع، استخدمت حواسيب الكم في تطوير النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي، لكن الأجوبة التي قدمتها كانت "غير مستقرة".

وتعبير "غير مستقرة" يعبر عنها أحياناً بـ "الهلوسة"، حسب ما أوضح لموقع "الحرة"، كل من سام رزنيك، الباحث في معهد الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية، والبروفيسور راو.

هذه "الهلوسة" البرمجية تتمثل في تقديم نموذج الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة وغير منطقية أو مخالفة للواقع أو عبثية لا معنى لها.

مجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يسعى لتحسين قدرات حواسيب الكم، للاستفادة من قدراتها الفريدة خصوصا من ناحية الوصول إلى نفس النتائج لكن بجهد أقل ووقت أقصر.

سباق العمالقة

ويتوالى سباق السيطرة على هذه التكنولوجيا التي فتحت أبواب الأرباح المالية الضخمة والسيطرة السياسية وحتى العسكرية، وسط مخاوف من تهديدها حرية التفكير والتعبير.

خلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نموا صاروخيا وحققت أرقاما فلكية.

ارتفع عدد مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نهاية فبراير بنسبة 33 في المئة مقارنة بنفس العدد في ديسمبر الماضي ليصل إلى 400 مليون مستخدم أسبوعيا.

ومن أهم مستخدمي "تشات جي.بي.تي" نجد بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري وشركات كبرى مثل "تي موبايل" و"مودرنا" و"أوبر".

أما نموذج "ديب سيك" الصيني، فارتفع عدد مستخدميه 12 مرة خلال شهر يناير الماضي، ليصل الآن إلى معدل 700 ألف مستخدم أسبوعيا.

والتحقت شركة "أكس.أيه.آي" بالركب، ومنذ طرحها نموذج "غروك 3" ارتفع عدد مستخدميه من 4.3 مليون إلى 31.5 مليون مستخدم يوميا، وذلك خلال 3 أسابيع فقط.

وزعمت الشركة المنتجة لنموذج "ديب سيك" الصيني أنه يقدم خدمة أقل كلفة ومماثلة لنظيره الأميركي "تشات جي.بي.تي" من شركة "أوبن أيه آي".

سرعان ما خرج نموذج أميركي آخر بعد أقل من شهر، يسمى "غروك 3"، ليقدم قدرات أكبر.

شركة "أكس أيه آي"، التي أسسها إيلون ماسك عام 2023، تقول إن نموذج "غروك 3" هو الأفضل حتى الآن.

ظهور "ديب سيك" شكل صدمة ليس للباحثين المختصين بل للأسواق العالمية وحتى السياسة الدولية.

"ديب سيك" اعتمد تقنية تسمى استخلاص النماذج، يقول رزنيك في حديثه لموقع "الحرة".

تعتمد هذه التقنية على طرح آلاف من الأسئلة على نموذج "تشات جي.بي.تي"، لفهم طريقة تحليله للمعلومات.

أي لفهم طريقة تفكيره، والتعلم منها عبر التدرب على ذلك النموذج.

وبناء على ذلك قام الباحثون الصينيون ببناء نموذج "ديب سيك"، باستخدام الأجوبة المقدمة من "تشات جي.بي.تي".

ومع ارتفاع عدد مستخدمي الذكاء الاصطناعي تتزايد الحاجة إلى مزيد من مراكز البيانات، ما يعني، في المحصلة، استهلاكا أكبر للكهرباء والمياه، وما يصحب ذلك من تآكل لإمكانيات استمرار الحياة على كوكب الأرض.

مفاجآت بالجملة

الباحثان اللذان تحدثنا إليهما يخالفان الاعتقاد السائد بأن الصينيين لا يملكون  قدرات حاسوبية كبيرة نظرا لتأخرهم في مجال الرقائق الإلكترونية.

فمنظومة "ديب سيك" أصبحت تستخدم عددا كبيرا من الرقائق المصنعة من طرف شركة هواوي الصينية.

يكشف رزنيك لنا سرا آخر من خبايا الصراع الخفي للسيطرة على شعلة القيادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

نموذج "ديب سيك" يعتمد على قدرات حاسوبية كبيرة، لكن السر يكمن في طبيعة الرقاقات الإلكترونية.

هناك نوعان رئيسيان من الرقاقات الإلكترونية المعتمدة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

الرقائق المتقدمة مثل تلك المنتجة من شركة "إنفيديا"، ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية، تعرف باسم رقائق "جي.بي.يو"، وتستخدم للعمليات المعقدة مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

كلمة "جي.بي.يو" هي الاختصار الإنكليزي لمصطلح "graphic processing unit" أو (GPU) اختصارا، وتعني "وحدات معالجة الصور".

مكنت قدرات تلك الرقائق شركة "إنفيديا" من الوصول إلى قيمة سوقية تعادل نحو 3 ترليون دولار.

رقائق "جي.بي.يو" لم تكن في الأصل معدة للاستخدام في مجال الذكاء الاصطناعي.

"إنفيديا" عملت منذ تأسيسها عام 1993، في مجال الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الفيديو، وأرادت الحصول على صور ذات نوعية جيدة، تضفي طابعا أكثر واقعية على ألعاب الفيديو.

في ذلك الوقت كانت شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" الأميركية تعمل على إنتاج رقائق حواسيب تعرف باسم "سي بي يو"، وهو الاختصار الإنكليزي لكلمة "سنترال بروسيسنغ يونت"، أو "وحدات المعالجة المركزية".

الرقائق الإلكترونية لوحدات المعالجة المركزية هي الأساس للحواسيب لذلك فهي أكثر انتشارا، لكن طريقة عملها تجعلها أقل تقدما في مجال الحسابات المعقدة.

من خلال التجارب الأولى للنماذج الحديثة للذكاء الاصطناعي، تبين أن وحدات معالجة الصور المنتجة من شركة "إنفيديا"، هي الأفضل بسبب قدرتها على إجراء العمليات الحسابية المعقدة، مع حجم معالجة أكبر.

تحولت "إنفيديا" من شركة تعمل في مجال ألعاب الفيديو إلى المزود الرئيسي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي.

منذ أعوام تشهد الولايات المتحدة والصين نزاعا بشأن الرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي

المفارقة أن التحول المفاجئ كان سبباً في قوة الصدمة الناجمة عن نجاح نموذج "ديب سيك".

القدرة على تقديم نموذج يستخدم قدرات حاسوبية أقل تقدماً وضع مستقبل شركة "إنفيديا" في مرمى الشك وأثر على التداولات في الأسواق.

وأصبحت رقاقات "إنفيديا" طلبا أساسيا لدى كبرى شركات التقنية مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" وغيرها.

لكن الاهتمام بذلك الحدث تجاوز عالم المال والأعمال.

الحرة / خاص - واشنطن