"دماء جزائرية" في عروق كاليدونيا
" قولوا لأمي ما تبكيش.. يا المنفي"
"ولدك ربي ما يخليهش.. يا المنفي" (إن الله لن يتخلى عن ولدك)
إذا كنت من سكان دول شمال أفريقيا أو حتى بعض دول المشرق القريبة منها فإنه يصعب ألا تكون قد استمعت أو على الأقل صادفتك أغنية "يا المنفي".
من تلحين الفنان الجزائري، آكلي يحياتن، واشتهرت على مدى أوسع مع الثلاثي، رشيد طه وفوضيل والشاب خالد.
الكلمات توثق أوجاع منفيين اقتلعوا من وطنهم، وفكرة واحدة تجول في خواطرهم، الحرية.
لكن ما قصة هذه الأغنية؟ وما علاقتها بجزيرة "كاليدونيا الجديدة" الفرنسية التي تبعد عن الجزائر أكثر من 17 ألف كيلومتر؟ وما حكاية آلاف الجزائريين الذين نفتهم فرنسا الاستعمارية عن بلدهم الأم؟
"يا المنفي"
لا تتفق المصادر التاريخية بشأن هوية كاتب "يا المنفي" لكن ما هو محل إجماع هو تحولها مع مرور الزمن إلى أيقونة للتحرر من الاستعمار.
تقول روايات متداولة إن كاتب الأغنية، منفي جزائري أبعدته السلطات الفرنسية عن وطنه نحو كاليدونيا الجديدة.
واستمر الاحتلال الفرنسي للجزائر نحو 132 عاما (1830 إلى 1962)، تاركا خلفه ملايين القتلى والمصابين، وفق الرواية الرسمية الجزائرية.
لكن"جرائم الاستعمار الفرنسي" في الجزائر لا تقتصر على القتل وتفكيك الأراضي واستغلال الثروات بل تشمل ما "أوجع" من ذلك وهو"النفي من الوطن".
كاليدونيا الجديدة، هي إقليم فرنسي شبه مستقل، تبسط الدولة الفرنسية سيادتها عليه في مجالات الدفاع والشؤون الخارجية والقانون والسياسة النقدية والتعليم العالي والبحث العلمي وغيرها.
وجهات عديدة نُفي إليها الجزائريون، بينها مستعمرات فرنسية مثل كايان وكاليدونيا الجديدة.
وفي قلب المحيط الهادئ يبتعدون تدريجيا آلاف الكيلومترات عن دفء الوطن.
ثم أتت "يا المنفي" لتعكس معاناة المنفيين الجزائريين إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة.
"قلبي وشداك تعيف.. يا المنفي"، أي "يا قلبي لماذا تشمئز؟"
"والصوبة (الحساء) دايما كيف كيف (هو هو لم يتغير).. يا المنفي"
"الجاميلة (الإناء) مغمور بالماء.. يا المنفي"
"الجريلو عايم (الخنافس تعوم) فيها.. يا المنفي"
رحلة آلاف الأميال
"الاشمئزاز" هذا بدأ بسفن كبرى تحرّكت حاملة أقفاصا ابتلعت محتجزيها على عجل ليغيبوا نحو النصف الآخر من الكرة الأرضية.
وبذلك انطلقت أولى عمليات ترحيل الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة عام 1864 بحسب ما يذكره كريستوفر ساند، وهو كاتب وباحث أركيولوجي في كاليدونيا وحفيد لأحد المنفيين الجزائريين.
التُهم التي وجهتها فرنسا إلى الجزائريين المنفيين تنوّعت فأدين البعض بـ "القتل" و"السرقة" و"الاغتصاب" و"المشاركة في أعمال العنف" ضد الفرنسيين وغيرها.
ساند ألّف كتابا حول هذه القضية بعنوان "كاليدون"، وقدّر أعداد المرحلين من شمال أفريقيا إلى كاليدونيا الجديدة بنحو 2100 شخص نحو 91 بالمئة منهم قدموا من الجزائر فيما ينتمي الباقون إلى تونس والمغرب.
وقبل حفر قناة السويس في مصر، يقول ساند في تصريح لموقع "الحرة" إن بعض الرحلات من الجزائر إلى فرنسا استمرت نحو خمسة أشهر قبل أن تتقلص المدة في ما بعد إلى نحو شهرين عقب افتتاح القناة عام 1869.
تفاصيل مريرة يسردها ساند عن رحلة المُبعَدين عن بلدهم.
"وضعتهم السلطات في أقفاص ضيقة أسفل السفينة في درجات حرارة منخفضة، وقدموا لهم النبيذ ولحم الخنزير المقدد كغذاء، وهو ما يتناقض مع عقيدتهم الإسلامية".
وفي الرحلات الطويلة إلى كاليدونيا الجديدة، مات كثيرون، لكن السجلات والأرشيفات لا تحدد عددهم بالضبط، يقول ساند.
الوصول إلى شواطئ الجزيرة لا يعني انتهاء المعاناة، فهناك تبدأ فصول أخرى من التعذيب النفسي والجسدي، وفق ما يذكره الباحث الجزائري، الصديق التاوتي.
يصف تاوتي في كتابه المعنون بـ"المُبعدون إلى كاليدونيا الجديدة" ظروف "اعتقال" الجزائريين في هذه المنطقة بـ"المريرة بشكل لا يُتصور".
"كان المسجونون رهن نزوات الحراس وتحت تصرفهم الكامل، وقد علمت أن الحراس كانوا يلعبون الورق برؤوس المساجين، فكان على الخاسر أن يقتل أحد المساجين الذي يُعيَّن قبل اللعب".
مُنع المنفيون أيضا من إطلاق الأسماء العربية على أبنائهم، لمحو أي ارتباط مع وطنهم الأم، وفق الكاتب ذاته.
اهتمام تاوتي بقصص المنفيين الجزائريين في كاليدونيا، بدأ عندما كان في سبعينيات القرن الفائت مسؤولا بالبنك الإسلامي للتنمية.
في إحدى المؤتمرات، أخبره مسلم أسترالي بوجود أقلية من أصل جزائري مقيمة في كاليدونيا الجديدة ما دفعه إلى السفر هناك، ليتحول منذ ذلك الوقت إلى مرجع في دراسة قضاياهم.
أطلال قصص منسيّة
لا تخلو قصة كل مُبعد جزائري نحو كاليدونيا الجديدة من الألم والمعاناة، لكن القليل منها فقط وصل إلى أيدي المؤرخين والباحثين في مسارات هذه القضية.
من بين أكثر الحكايا تراجيدية، يذكر ساند قصة محمد بنعيطة الذي وصل هناك عام 1867، ليقضي عقوبة بالسجن تزيد عن ثلاثة عقود.
قضى محمد هذه الفترة الطويلة في التخطيط للهروب من سجنه داخل هذه الجزيرة البعيدة.
انتقل للتنفيذ، فشل في ذلك ثماني مرات حيث وقعت عليه أعين الحراس، ليعيدوه إلى زنزانته.
وفي عام 1903، اختفى محمد نهائيا، ربما وصل إلى نيوزيلندا أو أستراليا أو الجزائر أو ربما يكون قد مات.
يسرد ساند، معاناة الكثير من الجزائريين بسبب منعهم من اصطحاب أبنائهم أو زوجاتهم إلى منفاهم.
يقدِّر ساند عائلات المنفيين من الجزائر الذين بقوا في وطنهم بنحو 3 آلاف من الأطفال والزوجات.
لم تسمح للسلطات الفرنسية لمعظم المنفيين بالعودة إلى وطنهم وأحضان عائلاتهم، فاضطر هؤلاء إلى بدء حياة جديدة.
هناك، كونوا أسرا جديدة تزوجوا فرنسيات أو نساء من "الكاناك" وهم السكان الأصليون لكاليدونيا الجديدة.
وبعد هذا الوقت الطويل، يقدّر ساند عدد سكان كاليدونيا الجديدة الذين تسري في عروقهم "دماء جزائرية" بأكثر من 50 ألف شخص.
نجح الكثير منهم في خط قصص نجاح مُدوّية في قطاعات الرياضة والصناعة والخدمات والتعليم وغيرها.
وإلى اليوم، يحتفظ بعض أحفاد المنفيين الجزائريين بأسماء عربية أو أمازيغية فيما لا يزال جزء منهم يدين بالإسلام.
العودة إلى الجذور
بعد أزيد من قرن، نبش بعض أحفاد المنفيين الجزائريين في تاريخ أجدادهم وقرروا العودة إلى وطنهم.
يقول ساند إنه انطلاقا من عام 2005 تم تنظيم خمس رحلات إلى الجزائر، تعرف خلالها أحفاد جزائريين على أقارب لهم في هذا البلد المغاربي.
بين هؤلاء ساند، الذي عثر على أقارب له في "العزازقة" بمنطقة القبائل الجزائرية.
"مات كل إخوة جدي، لكن أحفادهم يتذكرون قصة عمهم جيدا".
اعترفت الجزائر بأحفاد المنفيين إلى كاليدونيا الجديدة، وحصل بعضهم على جوازات سفر.
قبِل بعضهم العرض، ورفض آخرون بينهم ساند ذلك، مبررا ذلك بأن "الجزائريين ضحوا بالكثير للحصول على استقلال بلدهم، فيما لم أشعر بأن لي الشرعية التامة لامتلاك هذا الجواز".
ومع تكرار الزيارات، توطدت علاقات ذوي المنفيين بشدة مع وطن أجدادهم، وتزوج بعضهم من جزائريات.
وفي مايو المقبل، ينوي ساند ومجموعة أخرى من أحفاد الجزائريين زيارة بلدهم لرؤية الأقارب هناك.
يقول ساند واصفا اللحظة الأولى التي التقى بها أقاربه عام 2005: "نملك الملامح ذاتها ولم أكن بحاجة لاختبارات الحمض النووي لإثبات قرابتي بهذه العائلات".
تنتهي الأغنية:
"اصبري يا أمي ما تبكيش.. يا المنفي"
"ولدك ربي ما يخليهش.. يا المنفي"