وجوه وقضايا

وصلت إلى أدمغتنا.. كيف نحمي أجسادنا من جزيئات البلاستيك؟

أريج البكارـ واشنطن, (تحرير: كريم كاظم)
07 مارس 2025

قبل أيام تغيرت تفاصيل كثيرة في حياتي اليومية.

تخلصت من كل أوعية حفظ الطعام البلاستيكية واستبدلتها بأخرى زجاجية.

الأطباق والأكواب البلاستيكية التي كانت تحمل صور الشخصيات الكرتونية المفضلة لابنتي ذات الثلاث سنوات، هي الأخرى انتهت في حاوية إعادة التدوير.

لكن المشكلة أبعد من ذلك. لم أدركها إلا بعد أن قرأت مقالا عنوانه "الميكروبلاستيك يملأ دماغك: هل يضر بك؟"

الميكروبلاستيك موجود في كل مكان. في الماء، في الطعام، في الهواء الذي نتنفس وحتى في أجسادنا.

في عام 2019، قدرت الأمم المتحدة أن العالم ينتج حوالي 400 مليون طن من النفايات البلاستيكية كل عام، يتحلل كثير منها إلى ميكروبلاستيك.

وبحسب الدراسات يستهلك البشر حوالي 50 ألف جزيء من الميكروبلاستيك سنويا عبر الطعام والماء.

العثور على الميكروبلاستيك داخل جسم الإنسان ليس إلا خطوة أولى. الخطوة الأسهل.

الأكثر صعوبة هو تحديد تأثيره وحكم أضراره على صحتنا، لاختلاف أحجام هذه الجزيئات وتركيباتها الكيميائية.

التلوث البلاستيكي يعد أحد أكبر التحديات في القرن الحادي والعشرين.

فالاستخدام المتزايد للمواد البلاستيكية في الوقت الحاضر لا يشكل عبأ خطيرا على البيئة فقط، بل أيضًا على صحة الإنسان.

ما هو الميكروبلاستيك؟

على عكس المواد الطبيعية مثل الخشب والورق، لا يتحلل البلاستيك تماما. بدلا من ذلك، ينتهي به المطاف في مكب النفايات، ويتفكك إلى تريليونات من القطع المجهرية التي تجرفها الرياح والمياه وتحملها إلى كل مكان تقريبا.

ظهر مصطلح الميكروبلاستيك في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. واليوم يُستخدم على نطاق واسع لوصف جزيئات بلاستيكية صغيرة يقل قطرها عن 5 مليمترات.

"توجد في بيئتنا من خلال نوعين رئيسيين،" تقول فرح الحطاب، مسؤولة حملة البلاستيك في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

"الأولي، يُصنع عمدًا بحجم صغير لاستخدامه في مستحضرات التجميل والصناعات المختلفة،" تقول الحطاب لموقع "الحرة".

"والثانوي، يتشكل نتيجة تحلل البلاستيك الأكبر حجما بفعل العوامل البيئية مثل أشعة الشمس والمياه".

في أوائل سبعينيات القرن العشرين، عثر باحثون لأول مرة على جزيئات صغيرة وقطع من البلاستيك في المحيط.

وفي 2018، عثر الباحثون لأول مرة على الميكروبلاستيك في فضلات الإنسان.

لم يشكل ذلك مفاجأة. الأمر كان محسوما.

"هكذا نستهلكها كبشر" يشرح الباحث في سياسيات المناخ والبيئة تود لابورت لموقع "الحرة".

"هذه الجزيئات المجهرية تنتهي في أنظمة المياه وتستهلكها الكائنات الحية التي يتغذى عليها الإنسان"، يضيف. 

"المواد الكيميائية الموجودة في الحافظات البلاستيكية وأدوات الطهي غير اللاصقة تتسرب إلى الطعام. أيضا تسخين الأكل في أوعية بلاستيكية في الميكروويف يعد طريقا آخر لتعرضنا لهذه الجزيئات".

تؤكد الحطاب كلام لابورت، وتضيف "يمكننا استنشاق الجزيئات البلاستيكية الدقيقة المنتشرة في الهواء، التي تصل إلى الرئتين مباشرة. المواد الكيميائية السامة المرتبطة بالميكروبلاستيك يمكن أيضا أن يمتصها الجلد".

يبتلع الشخص العادي حوالي 5 غرامات من البلاستيك كل أسبوع، أي ما يعادل وزن بطاقة ائتمان، وفق نتائج دراسة أجراها صندوق الحياة البرية العالمي عام 2019.

وتقول أبحاث أخرى إن الشخص العادي يبتلع ما لا يقل عن 50 ألف جزيء من البلاستيك سنويا.

في عام 2022 وجد باحثون في هولندا الميكروبلاستيك في دم الإنسان لأول مرة.

واكتشف علماء صينيون الميكروبلاستيك في قلوب أشخاص خضعوا لجراحة القلب عام 2023.

وفي دراسة نُشرت في أيار 2024، عُثر على جزيئات البلاستيك في الأجهزة التناسلية للرجال.

وأظهرت الأبحاث تراكم المادة في 8 من أصل 12 جهازا في جسم الإنسان، ومن بينها جهاز الدوران (القلب والأوعية الدموية)، والجهاز الهضمي، والجهاز البولي.

قد يكون هذا طبيعيا! كل ما يدخل أجسامنا تتم تصفيته عبر الكبد والكلى، لذا ربما تجد قطع البلاستيك طريقها إلى تلك الأعضاء.

نفس الشيء مع القلب، حيث تنتهي الميكروبلاستيك في الأوعية الدموية.

لكن المفاجأة كانت بوجود الميكروبلاستيك في الدماغ، فهو مصمم لإبقاء الأشياء خارجا، من خلال ما يسمى "حاجز الدم" في الدماغ.

دراسة نشرت في مجلة Nature فبراير الماضي، كشفت أن المخ يحتوي على ما يصل إلى 30 ضعفا من الميكروبلاستيك أكثر من الكبد والكلى.

وفي المتوسط، كانت مستويات الميكروبلاستيك أعلى بنحو 50% في عينات المخ من عام 2024 مقارنة بعينات عام 2016.

وجدت الدراسة أيضا أن تركيزات الميكروبلاستيك في الأشخاص الذين ماتوا بسبب الخرف كانت أعلى بنحو 6 أضعاف الموجودة في الأدمغة السليمة.

يعتقد الباحثون أن الخلايا المناعية تلتهم جزيئات البلاستيك وتنتقل عبر مجرى الدم، لتستقر في النهاية في الأوعية الدموية في الدماغ.

كيف يؤثر على الصحة؟

قد تبدو الإجابة على هذا السؤال سهلة، لكنها لا تزال قيد البحث حتى الآن.

مسؤولة حملة البلاستيك في غرينبيس فرح حطاب تقول "إن اختلاف حجم هذه الجزيئات يجعل من الصعب تتبعها ودراستها بدقة، بعضها يطرحها الجسم بسهولة، بينما الجسيمات الأصغر قد تتراكم في الأنسجة الداخلية، وتؤدي إلى تأثيرات صحية طويلة الأمد، مثل التهابات أو اضطرابات هرمونية."

"الميكروبلاستيك مغناطيس يجذب الملوثات الأخرى،" يقول الخبير في شؤون الطاقة والسياسات البيئية، نيك لوريس لموقع "الحرة".

ويتابع "هناك مخاوف صحية مثل زيادة خطر الإصابة بالسرطان، وتأثيرات ضارة على الجلد، ومشاكل في الجهاز الهضمي، وزيادة المخاطر على النساء الحوامل".

ووجدت مئات الدراسات المتعلقة بالأضرار المحتملة للميكروبلاستيك على الحيوانات - وخاصة الكائنات المائية - أن هذه الجزيئات يمكن أن تسد الأمعاء أو تعيق القدرة على التكاثر.

وعلى أساس هذه النتائج، يشتبه الباحثون في أن الميكروبلاستيك قد يكون مرتبطا بالسرطان وأمراض القلب والكلى ومرض الزهايمر أو مشاكل الخصوبة لدى البشر.

ويرى لوريس أن هناك فجوات كبيرة في الأبحاث والمعرفة حول كيفية تفاعل هذه الجسيمات مع أجسادنا ومدى خطورتها والمستويات التي تصبح فيها ضارة.

بدائل البلاستيك

لا يوجد حل مباشر لتخفيف التعرض للميكروبلاستيك، من وجهة نظر الباحث الأميركي في سياسيات المناخ والبيئة تود لابورت، باستثناء تجنب استخدام البلاستيك تماما.

"لا شيء بالمجان" يقول لابورت، فبدائل البلاستيك ستكون أكثر تكلفة. وبطريقة أو بأخرى سيتحمل البشر عواقب استخدام البلاستيك الصحية أو البيئية.

لمسؤولة حملة البلاستيك في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجهة نظر مختلفة.

  • تقليل التعرض للميكروبلاستيك ممكن إذا اتبعنا بعض الإجراءات الوقائية، وفقا للحطاب.

  • استخدم مياه الصنبور المفلترة بدل من المياه المعبأة.

  • استخدم زجاجات ماء قابلة لإعادة الاستخدام. 

  • تجنب تخزين الطعام أو تسخينه في حاويات بلاستيكية.

  • قلل استهلاك الأطعمة المصنعة. 

  • اختر الأقمشة الطبيعية واستخدم الفلاتر في الغسالات لتقليل تساقط الألياف البلاستيكية من الملابس.

وكما هو الحال مع شفاطات التهوية المستخدمة مع مواقد الغاز، يقول الخبير في شؤون الطاقة والسياسات البيئية نيك لوريس إن التهوية داخل المنازل تساعد في تقليل التعرض للميكروبلاستيك.

تدابير تنظيمية

الميكروبلاستيك يشكل تحديا بيئيا طويل الأمد، إذ إن تحلل المواد البلاستيكية يستغرق مئات السنين.

وعلى الرغم من عدم وجود حلول تامة لإزالة الميكروبلاستيك من البيئة، تؤكد فرح الحطاب أن هناك استراتيجيات فعالة يمكن تنفيذها للحد من انتشاره.

أولى هذه الاستراتيجيات، كما ترى الحطاب، تقليل إنتاج البلاستيك أحادي الاستخدام، مثل الأكياس البلاستيكية، وزجاجات الماء والمشروبات الغازية البلاستيكية، والحبيبات البلاستيكية التي تستخدم في مستحضرات التجميل.

ويقول لوريس إن من الصعب فرض أي تنظيم عالمي بشأن إنتاج البلاستيك والتلوث الناجم عنه، خاصة في دول مثل الصين حيث يصعب مراقبة الإنتاج.

" في نهاية الأمر هو قرار سياسي" يقول تود لابورت، يجب أن نتذكر أن البلاستيك لم يكن موجودا في الماضي، ومع ذلك استمرت الحياة. لمجرد كونه رخيصا لا يعني أننا بحاجة إلى البلاستيك.

أريج البكار(تحرير: كريم كاظم)

النازحون اللبنانيون
آلاف النازحين فقدوا منازلهم وتـُركوا لمصيرهم

بعد أقل من شهر على انتقال عدي وعائلته إلى منزلهم الجديد، الذي استغرق بناؤه 15عاما؛ انقلبت حياتهم رأسا على عقب.

فتحت جماعة حزب الله في 8 أكتوبر جبهة الجنوب على إسرائيل تحت شعار "حرب الإسناد" لقطاع غزة.

قرار الحزب مساندة حماس في مواجهة الجيش الإسرائيلي، كلّف اللبنانيين غير المعنيين بالحروب آلاف الأرواح، وترك مئات آلاف آخرين من دون سند.

وتكبد لبنان جراء الحرب خسائر اقتصادية ومادية بنحو 8.5 مليار دولار أميركي، بحسب تقييم البنك الدولي.

أما عدي، فقد تبعثرت عائلته، لكن المعاناة لم تتوقف عند هذا الحد.

نزحت زوجته وطفلاه برفقة أهله، من مزرعتهم في قرية "الضهيرة،" إلى مخيم الرشيدية، شرقي مدينة صور، في الجنوب. وتلك كانت أول محطة في رحلة نزوح طويلة تكبدها هو وأسرته.

بدايةً، صعُبت عليه فكرة النزوح بعيدا والتخلي عن مزروعاته.

قرر البقاء لوحده في القرية.

"كانت لدي مزروعات حبوب على مساحة 36 ألف متر، إضافة إلى مساحات من مساكب الدخان"، يقول عدي لموقع "الحرة".

ولأن منزله قريب جدا من الحدود، ويقع مقابل تلة "الجرداح" الإسرائيلية، انتقل عديّ للعيش في منزل جدّه في منطقة قريبة اعتبرها أكثر أمانا.

وتشكل تلة "الجرداح" نقطة تموضع لأفراد الجيش الإسرائيلي وآلياته.

بعد مرور خمسة أشهر، استهدفت غارة إسرائيلية منزلا مجاورا، وبفعل ضغطها القوي الساخن ارتفع عدي مسافة في الهواء، وسقط على أريكة.

"في تلك اللحظة،" يقول عدي، "فقدت الأمل في الزراعة بصراحة، ونزحت".

انضم إلى عائلته التي كانت قد انتقلت من مخيم الرشيدية إلى منزل شقيقته في صيدا، جنوبي لبنان.

بعد نحو عام من عمر الحرب، اشتدّ القصف على صيدا أيضا، فنزح ثانية مع العائلة إلى منزل بالإيجار في منطقة في بنين - قضاء عكار شمالي لبنان.

توسّعت الحرب، واستُهدفت بنين أيضا بغارات جوية.

حزمت العائلة أشياءها ونزحت - في نفس المنطقة هذه المرة - إلى بلدة خربة داوود القريبة من الحدود السورية.

لاحقتهم الغارات إلى هناك. إذ استهدفت إسرائيل المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، بكثافة، لقطع الإمدادات عن حزب الله.

أصبحت العائلة عرضة لخطر الصواريخ والمقذوفات. فنزحت، للمرة الخامسة، إلى الجنوب، لتستقر في بلدة القاسمية الساحلية، المحاذية لمدينة صور.

فداحة الخسائر

ما سميت بـ"حرب الإسناد"، لم توقف الحرب في غزة. 

وأسفرت عن مقتل ستة آلاف شخص في لبنان ـ يرجح أن معظمهم مدنيون ـ بحسب أحدث إحصائية "للمؤسسة الدولية للمعلومات".

تسببت الحرب كذلك في نزوح داخلي لأكثر من 875 ألف شخص. وكانت ظروف النزوح أقسى على النساء والأطفال والمسنين والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة واللاجئين.

خلال ترحاله مع العائلة، استأجر عدي أرضا في بلدة "القليلة" جنوبي صور، زرعها مساكب دخان (تبغ)، ويعتزم نقل هذا الشتل إلى بلدته. 

لكن خطته هذه، تحدّها عقبات.

أحلام تبخرت

نصيب قرية عدي من الحرب دمار مهول. عدي عاينها بنفسه. 

القرية "مدمّرة بالكامل. سُوّيت كلها بالأرض. لم يعد فيها أي سقف ولا حتى زاوية. المدارس، المساجد، المباني البلدية، الآبار الأرتوازية، كل شيء مدمر" بما في ذلك منزله الجديد، يقول.

"بيتي تدمّر بالكامل ما بقي منه أي شيء".

ليس المنزل فحسب. "جرفوا بساتين الأفوكادو والزيتون كلها، ما بقي عندي ولا شجرة واحدة".

ليس هذا فحسب. خسر أيضا آلياته الزراعية. 

"كان عندي تراكتور (جرارة) كبير و آخر صغير، احترقت، كانت تساوي 25 ألف دولار". لم يسدد ثمنها بعد. 

ويضيف بحرقة: "لم يعد لدينا أي شيء . أصبحنا تحت الصفر".

لا تزال أسرة خالة عدي يقيمون في مبنى مدرسة في صيدا، منذ نزوحهم من الضهيرة في بداية الحرب.

"يأتي مدير المدرسة صباح كل يوم ويطلب منهم الإخلاء، وهم ليس لديهم أي مكان آخر يذهبون إليه ومعظمهم نساء وأطفال،" يقول، "ما في رحمة في قلوب الناس، يتعاملون مع النازحين بقساوة". 

آلاف المزارعين في لبنان خسروا مزروعاتهم وماشيتهم وممتلكاتهم في حرب حزب الله وإسرائيل. 

يقدر البنك الدولي الخسائر في قطاع الزراعة اللبناني بقرابة 1.2 مليار دولار أميركي.

قرر حزب الله، الذي تصنفه واشنطن ضمن المنتظمات الإرهابية، خوض تلك الحرب، رغم الانهيار اقتصادي المستمر في لبنان منذ عام 2019. فزادت الحرب الطين بلّة.

خسر نحو 166 ألف لبناني وظائفهم بسبب الحرب، وهو ما يعادل انخفاضا في المداخيل قدره 168 مليون دولار أميركي.

مصائر النازحين

أكثر ما يؤلمني كنازح أن أحدا لا يشعر بمأساتي ومعاناة عائلاتي، يروي لموقع "الحرة"، بإحباط واضح في صوته. 

"في البداية كانت تصلنا مساعدات من اتحاد بلديات صور". لكن منذ بدء الهدنة لم يصله شيء من المساعدات. ولم يتمكن كذلك من الحصول على مساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعية .

"هل يعقل أن توزع المساعدات على عائلات في صور لم تنزح عن منازلها، فيما نحن النازحين من القرى الأمامية المدمرة لا نستلم شيئاً؟ أين المنطق؟".

"ربما لأني لا أنتمي لأي حزب،" يقول بتهكم، "لا أحد يهتم بحاجتي للمساعدات. أنا أنتمي للزراعة ولقمة العيش".

الآن، عدي دون منزل ولا يستطيع العودة إلى قريته.

اندثار الحلم.

منزل عديّ واحد من نحو 100 ألف وحدة سكنية تضرّرت كليا أو وجزئيا في تلك الحرب.

نحو 82 في المئة من أضرار الحرب تكبدها قطاع الإسكان في لبنان، بخسائر بلغت قيمتها 2.8 مليار دولار، بحسب البنك الدولي

أكثر المناطق تضررا محافظة النبطية، بنسبة 45 في المئة من إجمالي الأضرار في المناطق التي خضعت للتقييم، تليها محافظة الجنوب بنسبة 38 في المئة، ثم محافظة البقاع بنسبة 12 في المئة.

أكثر من 37 بلدة حدودية في الجنوب تدمرت بشكل واسع. ولم يتمكن بعد سكان عشرات القرى الجنوبية من العودة إلى قراهم، بعدما حذرهم الجيش الإسرائيلي من التوجه إليها.

وبرر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي في أواخر نوفمبر الماضي حظر العودة إلى "مخاوف تتعلق بالسلامة". 

وحدّد في تدوينة على إكس بخط أحمر على الخارطة، القرى التي يُمنع التوجه إليها أو إلى تلك الواقعة جنوبها.

قرية عدي، "الضهيرة" المحاذية للحدود الإسرائيلية، وردت على رأس تلك القائمة.

وهي قرية لبنانية صغيرة تضمّ 400 منزل، وتعدّ من "القرى الأمامية" في جبهات النزاع، كونها تبعد نحو 200 متر فقط عن الحدود مع إسرائيل.

لكن الحظر لم يردع عدي.

"أحاول كل يوم الذهاب إلى الضهيرة، وأتعرّض لإطلاق نار إسرائيلي. كل مرة أحاول، يطلقون الرصاص عليّ ولا أزال أحاول، لأني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن العودة الى قريتي".

عندما يذهب إلى هناك، يكتفي عدي بالتفرّج، ويمعن في التفكير "كيف سأجهز نفسي فيها، لا أريد الاستسلام، أريد العودة للزراعة". 

قبل النزوح، كان عديّ يخطط لبناء منزل لطفله، ابن العامين، ليخفف عنه هذه المشقّة عندما يكبر، ويمكّنه من التفرغ للدراسة.

الحرب غيّرت حساباته.

" أصبحت أمنيتي أن أمتلك حاوية بمساحة 20 مترا تؤويني أنا وعائلتي، لكي أرتزق من الزراعة".

أحلام مزارع جنوبي

منذ نعومة أظفاره، انخرط عدي في أعمال الزراعة، في قرية الضهيرة في جنوب لبنان.

مهنة تعلمها من والده، لأن ظروف عائلته المادية لم تسمح له بالدراسة والتحصيل العلمي.

"منذ صغري كنت أحلم ببناء بيت جميل في القرية، لأن البيت الذي نشأتُ فيه كان بحالة غير جيدة ويعاني مشاكل مثل تسرب الماء".

ويضيف بنبرة فخر "عملت منذ كان عمري 25 سنة، إلى أن بلغت 39 عاما حتى تمكنت من أن أبني بيت أحلامي".

بيتٌ أتقن عديّ عماره. جعل مساحته 300 متر مربع، وألبسه الحجر الصخري من الخارج، وزيّن جدرانه الداخلية بتصاميم من الجبص. كل شيء في المنزل اختاره بعناية فائقة. "كلفني على الورقة والقلم 137 ألف دولار أميركي"، يقول عدي.

كانت فرحته لا توصف عندما انتقل أخيرا إلى منزله الجديد في سبتمبر عام 2023. 

"بعد تعب 15 عاما في بناء المنزل، كان لدي خوف من أن يحصل شيء ما أو أن أموت قبل أن أهنأ بالعيش فيه".

يخبرني عدي عن قريته بأن "الناس في هذه القرية يعتمدون على الزراعة وخاصة التبغ والقمح، حالهم مثل حالنا، نزرع الآن لكي نبني لأولادنا، ونؤمّن لهم مستقبلهم كي لا يذوقوا العذاب الذي ذقناه نحن"، ويضيف "إن القرية تخلو من العناصر الحزبية".

مع ذلك، قلبت حرب حزب الله مع إسرائيل منزله، والقرية برمتها، رأسا على عقب.