بعد أقل من شهر على انتقال عدي وعائلته إلى منزلهم الجديد، الذي استغرق بناؤه 15عاما؛ انقلبت حياتهم رأسا على عقب.
فتحت جماعة حزب الله في 8 أكتوبر جبهة الجنوب على إسرائيل تحت شعار "حرب الإسناد" لقطاع غزة.
قرار الحزب مساندة حماس في مواجهة الجيش الإسرائيلي، كلّف اللبنانيين غير المعنيين بالحروب آلاف الأرواح، وترك مئات آلاف آخرين من دون سند.
وتكبد لبنان جراء الحرب خسائر اقتصادية ومادية بنحو 8.5 مليار دولار أميركي، بحسب تقييم البنك الدولي.
أما عدي، فقد تبعثرت عائلته، لكن المعاناة لم تتوقف عند هذا الحد.
نزحت زوجته وطفلاه برفقة أهله، من مزرعتهم في قرية "الضهيرة،" إلى مخيم الرشيدية، شرقي مدينة صور، في الجنوب. وتلك كانت أول محطة في رحلة نزوح طويلة تكبدها هو وأسرته.
بدايةً، صعُبت عليه فكرة النزوح بعيدا والتخلي عن مزروعاته.
قرر البقاء لوحده في القرية.
"كانت لدي مزروعات حبوب على مساحة 36 ألف متر، إضافة إلى مساحات من مساكب الدخان"، يقول عدي لموقع "الحرة".
ولأن منزله قريب جدا من الحدود، ويقع مقابل تلة "الجرداح" الإسرائيلية، انتقل عديّ للعيش في منزل جدّه في منطقة قريبة اعتبرها أكثر أمانا.
وتشكل تلة "الجرداح" نقطة تموضع لأفراد الجيش الإسرائيلي وآلياته.
بعد مرور خمسة أشهر، استهدفت غارة إسرائيلية منزلا مجاورا، وبفعل ضغطها القوي الساخن ارتفع عدي مسافة في الهواء، وسقط على أريكة.
"في تلك اللحظة،" يقول عدي، "فقدت الأمل في الزراعة بصراحة، ونزحت".
انضم إلى عائلته التي كانت قد انتقلت من مخيم الرشيدية إلى منزل شقيقته في صيدا، جنوبي لبنان.
بعد نحو عام من عمر الحرب، اشتدّ القصف على صيدا أيضا، فنزح ثانية مع العائلة إلى منزل بالإيجار في منطقة في بنين - قضاء عكار شمالي لبنان.
توسّعت الحرب، واستُهدفت بنين أيضا بغارات جوية.
حزمت العائلة أشياءها ونزحت - في نفس المنطقة هذه المرة - إلى بلدة خربة داوود القريبة من الحدود السورية.
لاحقتهم الغارات إلى هناك. إذ استهدفت إسرائيل المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، بكثافة، لقطع الإمدادات عن حزب الله.
أصبحت العائلة عرضة لخطر الصواريخ والمقذوفات. فنزحت، للمرة الخامسة، إلى الجنوب، لتستقر في بلدة القاسمية الساحلية، المحاذية لمدينة صور.
فداحة الخسائر
ما سميت بـ"حرب الإسناد"، لم توقف الحرب في غزة.
وأسفرت عن مقتل ستة آلاف شخص في لبنان ـ يرجح أن معظمهم مدنيون ـ بحسب أحدث إحصائية "للمؤسسة الدولية للمعلومات".
تسببت الحرب كذلك في نزوح داخلي لأكثر من 875 ألف شخص. وكانت ظروف النزوح أقسى على النساء والأطفال والمسنين والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة واللاجئين.
خلال ترحاله مع العائلة، استأجر عدي أرضا في بلدة "القليلة" جنوبي صور، زرعها مساكب دخان (تبغ)، ويعتزم نقل هذا الشتل إلى بلدته.
لكن خطته هذه، تحدّها عقبات.
أحلام تبخرت
نصيب قرية عدي من الحرب دمار مهول. عدي عاينها بنفسه.
القرية "مدمّرة بالكامل. سُوّيت كلها بالأرض. لم يعد فيها أي سقف ولا حتى زاوية. المدارس، المساجد، المباني البلدية، الآبار الأرتوازية، كل شيء مدمر" بما في ذلك منزله الجديد، يقول.
"بيتي تدمّر بالكامل ما بقي منه أي شيء".
ليس المنزل فحسب. "جرفوا بساتين الأفوكادو والزيتون كلها، ما بقي عندي ولا شجرة واحدة".
ليس هذا فحسب. خسر أيضا آلياته الزراعية.
"كان عندي تراكتور (جرارة) كبير و آخر صغير، احترقت، كانت تساوي 25 ألف دولار". لم يسدد ثمنها بعد.
ويضيف بحرقة: "لم يعد لدينا أي شيء . أصبحنا تحت الصفر".
لا تزال أسرة خالة عدي يقيمون في مبنى مدرسة في صيدا، منذ نزوحهم من الضهيرة في بداية الحرب.
"يأتي مدير المدرسة صباح كل يوم ويطلب منهم الإخلاء، وهم ليس لديهم أي مكان آخر يذهبون إليه ومعظمهم نساء وأطفال،" يقول، "ما في رحمة في قلوب الناس، يتعاملون مع النازحين بقساوة".
آلاف المزارعين في لبنان خسروا مزروعاتهم وماشيتهم وممتلكاتهم في حرب حزب الله وإسرائيل.
يقدر البنك الدولي الخسائر في قطاع الزراعة اللبناني بقرابة 1.2 مليار دولار أميركي.
قرر حزب الله، الذي تصنفه واشنطن ضمن المنتظمات الإرهابية، خوض تلك الحرب، رغم الانهيار اقتصادي المستمر في لبنان منذ عام 2019. فزادت الحرب الطين بلّة.
خسر نحو 166 ألف لبناني وظائفهم بسبب الحرب، وهو ما يعادل انخفاضا في المداخيل قدره 168 مليون دولار أميركي.
مصائر النازحين
أكثر ما يؤلمني كنازح أن أحدا لا يشعر بمأساتي ومعاناة عائلاتي، يروي لموقع "الحرة"، بإحباط واضح في صوته.
"في البداية كانت تصلنا مساعدات من اتحاد بلديات صور". لكن منذ بدء الهدنة لم يصله شيء من المساعدات. ولم يتمكن كذلك من الحصول على مساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعية .
"هل يعقل أن توزع المساعدات على عائلات في صور لم تنزح عن منازلها، فيما نحن النازحين من القرى الأمامية المدمرة لا نستلم شيئاً؟ أين المنطق؟".
"ربما لأني لا أنتمي لأي حزب،" يقول بتهكم، "لا أحد يهتم بحاجتي للمساعدات. أنا أنتمي للزراعة ولقمة العيش".
الآن، عدي دون منزل ولا يستطيع العودة إلى قريته.
اندثار الحلم.
منزل عديّ واحد من نحو 100 ألف وحدة سكنية تضرّرت كليا أو وجزئيا في تلك الحرب.
نحو 82 في المئة من أضرار الحرب تكبدها قطاع الإسكان في لبنان، بخسائر بلغت قيمتها 2.8 مليار دولار، بحسب البنك الدولي
أكثر المناطق تضررا محافظة النبطية، بنسبة 45 في المئة من إجمالي الأضرار في المناطق التي خضعت للتقييم، تليها محافظة الجنوب بنسبة 38 في المئة، ثم محافظة البقاع بنسبة 12 في المئة.
أكثر من 37 بلدة حدودية في الجنوب تدمرت بشكل واسع. ولم يتمكن بعد سكان عشرات القرى الجنوبية من العودة إلى قراهم، بعدما حذرهم الجيش الإسرائيلي من التوجه إليها.
وبرر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي في أواخر نوفمبر الماضي حظر العودة إلى "مخاوف تتعلق بالسلامة".
وحدّد في تدوينة على إكس بخط أحمر على الخارطة، القرى التي يُمنع التوجه إليها أو إلى تلك الواقعة جنوبها.
قرية عدي، "الضهيرة" المحاذية للحدود الإسرائيلية، وردت على رأس تلك القائمة.
وهي قرية لبنانية صغيرة تضمّ 400 منزل، وتعدّ من "القرى الأمامية" في جبهات النزاع، كونها تبعد نحو 200 متر فقط عن الحدود مع إسرائيل.
لكن الحظر لم يردع عدي.
"أحاول كل يوم الذهاب إلى الضهيرة، وأتعرّض لإطلاق نار إسرائيلي. كل مرة أحاول، يطلقون الرصاص عليّ ولا أزال أحاول، لأني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن العودة الى قريتي".
عندما يذهب إلى هناك، يكتفي عدي بالتفرّج، ويمعن في التفكير "كيف سأجهز نفسي فيها، لا أريد الاستسلام، أريد العودة للزراعة".
قبل النزوح، كان عديّ يخطط لبناء منزل لطفله، ابن العامين، ليخفف عنه هذه المشقّة عندما يكبر، ويمكّنه من التفرغ للدراسة.
الحرب غيّرت حساباته.
" أصبحت أمنيتي أن أمتلك حاوية بمساحة 20 مترا تؤويني أنا وعائلتي، لكي أرتزق من الزراعة".
أحلام مزارع جنوبي
منذ نعومة أظفاره، انخرط عدي في أعمال الزراعة، في قرية الضهيرة في جنوب لبنان.
مهنة تعلمها من والده، لأن ظروف عائلته المادية لم تسمح له بالدراسة والتحصيل العلمي.
"منذ صغري كنت أحلم ببناء بيت جميل في القرية، لأن البيت الذي نشأتُ فيه كان بحالة غير جيدة ويعاني مشاكل مثل تسرب الماء".
ويضيف بنبرة فخر "عملت منذ كان عمري 25 سنة، إلى أن بلغت 39 عاما حتى تمكنت من أن أبني بيت أحلامي".
بيتٌ أتقن عديّ عماره. جعل مساحته 300 متر مربع، وألبسه الحجر الصخري من الخارج، وزيّن جدرانه الداخلية بتصاميم من الجبص. كل شيء في المنزل اختاره بعناية فائقة. "كلفني على الورقة والقلم 137 ألف دولار أميركي"، يقول عدي.
كانت فرحته لا توصف عندما انتقل أخيرا إلى منزله الجديد في سبتمبر عام 2023.
"بعد تعب 15 عاما في بناء المنزل، كان لدي خوف من أن يحصل شيء ما أو أن أموت قبل أن أهنأ بالعيش فيه".
يخبرني عدي عن قريته بأن "الناس في هذه القرية يعتمدون على الزراعة وخاصة التبغ والقمح، حالهم مثل حالنا، نزرع الآن لكي نبني لأولادنا، ونؤمّن لهم مستقبلهم كي لا يذوقوا العذاب الذي ذقناه نحن"، ويضيف "إن القرية تخلو من العناصر الحزبية".
مع ذلك، قلبت حرب حزب الله مع إسرائيل منزله، والقرية برمتها، رأسا على عقب.