A woman takes off her protective face mask on April 6, 2020 in Stockholm, during the novel coronavirus Covid-19 pandemic. …
سيدة ترتدي كمامة في العاصمة السويدية استكهولم

يطالب البعض في مصر بعودة الحياة إلى طبيعتها حفاظا على الاقتصاد، وعندما نسألهم ماذا لو زادت الإصابات بفيروس كورونا، يجيبون: "الحل في مناعة القطيع".

"مناعة القطيع" هي استراتيجية طرحتها بريطانيا في أول مارس للتعامل مع الأزمة. وفي اختصار، يرى أصحاب النظرية بأن نسمح للفيروس بأن ينتشر تدريجيا فيصيب نسبة كبيرة من السكان وبعد أن يتعافى معظمهم سيكونون مناعة ضده وعندما يتكون لدى عدد كبير من السكان مناعة، تقل فرص انتشار الفيروس وينحسر تدريجيا وتنتهي الأزمة.

ولكن الواقع هو أن الحكومة البريطانية تعرضت لانتقادات لاذعة من داخل وخارج المملكة المتحدة. منها خطاب وقع عليه أكثر من 500 عالم بريطاني قالوا فيه نصا: "إن "مناعة القطيع" في هذه المرحلة ليست خيارا قابلا للتطبيق، لأن هذا سيضغط على ((NHS جهاز الخدمة الصحية الوطني فوق طاقته، ويخاطر بمزيد من الأرواح بدون داعي".

وعلى الرغم من أن الكلام النظري عن فكرة "مناعة القطيع" ربما يبدو جذابا، إلا أن تطبيقه عمليا سيكون كارثيا بكل ما تحمل الكلمة من معنى لعشرة أسباب:

1-    مناعة القطيع تعني ملايين الوفيات: الخبراء يقولون إنه حتى يصل مجتمع ما لفكرة مناعة القطيع في حالة كورونا، فمعني ذلك أن يصاب 60 أو 70 في المئة من أفراده. ففي مصر مثلا يعني ذلك إصابة 60 مليون مصري على الأقل قبل أن تنجح هذه الفكرة. ولو حسبنا نسبة الوفيات Mortality Rate من هذا الرقم بحسب آخر ما أقرته منظمة الصحة العالمية، وهو 3.4 في المئة فيعني ذلك وفاة 2 مليون مصري على الأقل بسبب كورونا خلال شهور.

الذين يدافعون عن فكرة "مناعة القطيع" يتجاهلون حقيقة إننا حتى هذه اللحظة لا نعرف ما هو عمر المناعة التي تتكون بعد الإصابة والتعافي

2-    انهيار المؤسسات الصحية: بحسب الدراسات فإن حوالي 81 في المئة من المصابين لن يحتاجوا لمستشفيات، في حين سيحتاج 14 في المئة لدخول المستشفى وحوالي 5 في المئة للعناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي. ولو ترجمنا ذلك إلى أرقام في الحالة المصرية فإننا نتحدث عن احتياجنا لـ 8.4 مليون سرير عادي، و3 مليون سرير عناية مركزة وسيحتاج كثير منهم إلى أجهزة تنفس اصطناعي. وحتى لو تمت الإصابات بالتدريج، بحيث لا نحتاج لهذه الأماكن في نفس اللحظة، فسيظل الرقم فوق طاقة الأجهزة الصحية وهو ما سيتسبب في انهيارها.

فمصر بها على أفضل تقدير 15 ألف سرير عناية مركزة وعدد قليل من أجهزة التنفس الصناعي. مما سيؤدي إلى زيادة نسب الوفيات بشكل ضخم عن نسبة الـ 3.4 في المئة بسبب عدم قدرة الأجهزة الطبية على تلبية احتياج كل هذه الأعداد، ففي إيطاليا مثلا تضاعفت هذه النسبة عدة مرات. هذا فضلا عن الذين سيموتون بسبب الأمراض الأخرى، التي من الممكن علاجها في الظروف العادية، بسبب انهيار المستشفيات.

3-    زيادة أعداد الضحايا بين الأطباء والعاملين في القطاع الطبي عموما: كلما ازداد عدد المصابين الذين سيحتاجون لرعاية طبية، وخصوصا مع نقص الموارد وأدوات الوقاية الشخصية PPE ستزداد الإصابات بين صفوف العاملين في القطاع الطبي وبالتالي ستزداد الوفيات، مما يعني التضحية بالعمالة الطبية المدربة، مما سيعجل بانهيار المنظومة الصحية أيضا.
4-    خسائر اقتصادية مرعبة: الجميع يحدثنا عن خسائر الاقتصاد في حالة تم الإغلاق لعدة أسابيع لحين السيطرة على تفشي الفيروس ولكن لا أحد يتحدث عن الخسائر الاقتصادية المرعبة لو تفشى الفيروس. فلا أدري كيف يتوقع البعض أن تعود الحياة الاقتصادية لطبيعتها في حال، لو لا قدر الله، تفشى المرض ووصل للملايين خصوصا في الدول ذات الإمكانيات الاقتصادية المحدودة. فمن سيشتري عقارا أو سيارة أو حتى يذهب إلى السينما أو المطاعم لو استيقظنا يوميا على مئات أو آلاف الوفيات؟ بل من سيذهب إلى عمله في حين يموت الناس بسبب وباء ينتشر كالنار في الهشيم؟

5-    نحن لا نعرف إلى أي مدى تستمر المناعة: هؤلاء الذين يدافعون عن فكرة "مناعة القطيع" يتجاهلون حقيقة إننا حتى هذه اللحظة لا نعرف ما هو عمر المناعة التي تتكون بعد الإصابة والتعافي. فلا توجد دراسات كافية عن المرض حتى الآن، فربما تستمر هذه المناعة لبضعة شهور وربما لسنوات. فماذا لو خاطرنا بكل هذه الأرواح والمليارات لنتفاجئ مثلا بعد 6 شهور أن من لديهم مناعة بدأوا يتعرضون مرة أخرى للإصابة.

6-    ماذا لو تطور الفيروس؟: مرة أخرى ما زالت معرفتنا بهذا الفيروس محدودة جدا. فماذا لو سمحنا بإصابة الملايين على أمل تكوين مناعة القطيع، ثم تطور الفيروس وظهر بنسخة جديدة مثلا في الشتاء القادم. فمثلا فيروس الإنفلونزا الذي يصيب معظمنا في الشتاء يتطور كل سنة. وقتها سنحتاج أن نبني مناعة القطيع من جديد، وسنكون لحظتها ضحينا بكل هذه التضحيات غير المقبولة على كل المستويات من أجل فكرة وهمية.

7-    فصل الفئات الأكثر عرضة ليس ممكنا بشكل عملي: البعض يقول سنعزل الفئات الأكثر عرضة للوفاة من المرض ونترك المرض ينتشر بين الأصحاء والشباب ليكونوا المناعة الأول. هذا الكلام نظري جدا وتطبيقه مستحيل على أرض الواقع. فتطبيقه يعني أن نعزل كل من هو فوق الستين وكل من لديه أي مرض مثل السكر والقلب والضغط والسرطان وأمراض الصدر والحساسية والسيدات الحوامل عزلا صارما عن باقي أفراد المجتمع. وطبقا لسهولة وسرعة انتشار المرض فهذا الفرض غير ممكنا، إلا إذا نقلنا كل الفئات السابق ذكرها إلى مدن منعزلة، ومنعنا أي تواصل بين الفئتين وهو بالطبع شيء غير منطقي أو معقول.

8-    لا يوجد أي نموذج ناجح على فكرة مناعة القطيع: الحقيقة أن بريطانيا تراجعت، بعد أن كشفت دراسة أعدتها إمبريال كوليدج أن أعداد الوفيات ستصل إلى ربع مليون لو تم تطبيق الفكرة.

البعض يذكر السويد كمثال على نجاح فكرة مناعة القطيع، فهي لم تفرض الإغلاق بعد. ولكن في الحقيقة هم يتجاهلون عوامل كثيرة، منها أن عدد سكان السويد كلها 10 مليون وأن أكبر مدينة وهي العاصمة ستوكهولم بها حوالي 1.5 مليون وأن الناس في أغلب مدن السويد يعيشون في منازل متباعدة وحوالي نصف المجتمع حاليا يعملون من منازلهم وبالتالي فهم يطبقون العزل الاجتماعي إلى حد بعيد. والأهم من ذلك أن التجربة ما زالت في بدايتها. ومع ذلك فإن السويد بدأت التفكير في التراجع عن سياستها كما فعلت بريطانيا مع تزايد أعداد الوفيات والمصابين مؤخرا.

كلما ازداد عدد المصابين الذين سيحتاجون لرعاية طبية، ستزداد الإصابات بين صفوف العاملين في القطاع الطبي

9-    الواقع أثبت أنه لا بديل عن الحظر والإغلاق: التجربة أثبتت أن الدول التي رفضت فكرة الحظر في البداية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا اضطرت للجوء إليه بعد أسابيع عندما تفشى المرض وزادت أعداد الوفيات. لذا فكلما تأخرنا في تطبيق هذا الدواء المُر، كلما تفاقمت المشكلة وتعقدت أكثر.

10-    لا أخلاقية الفكرة: فكرة مناعة القطيع هي فكرة بشعة وغير أخلاقية. فهي تعني ببساطة البقاء للأقوى، أو بمعنى أدق صاحب المناعة الأقوى والأمراض الأقل والأصغر سنا. مناعة القطيع تعني أن نضحي بالآباء والأجداد من أجل وهم الحفاظ على الاقتصاد. في حين حتى ولو قبلنا بهذه الفكرة المرعبة، فسينهار الاقتصاد حتما لما ذكرناه سابقا.

وفي النهاية فإن مناعة القطيع لا يمكن أن تتحقق بشكل فعال إلا من خلال وجود لقاح، وهو ما تعمل على تحقيقه العديد من مراكز الأبحاث وشركات الأدوية بالفعل. أما أن نترك المرض ينتشر من أجل فكرة نظرية لا توجد دلائل عملية على صحتها، فهو أشبه بسيناريو انتحار جماعي بشكل لا يمكن قبوله، فضلا عن الدمار الاقتصادي المصاحب له.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.