"تبقى الحداثة إذن بما تجلبه معها من قيم جديدة وتحديات سلوكية وبنيوية مسألة إشكالية"
"تبقى الحداثة إذن بما تجلبه معها من قيم جديدة وتحديات سلوكية وبنيوية مسألة إشكالية" | Source: Courtesy Image

بقلم عمار عبد الحميد/

ليس من الغريب أن تشهد المجتمعات البشرية صراعا وتنافسا مابين قيم الحداثة والقيم التقليدية، فالبشر لا يغيرون قيمهم وممارساتهم القائمة عليها بشكل اعتباطي وفوري. وإن بدا لنا في بعض الحالات الفردية أن شخصا ما قد غير سلوكياته وأفكاره مابين ليلة وضحاها فمرجع ذلك جهلنا بما كان يجري في ذاته من تفاعلات وحوارات. ففي الواقع، لا يمكن لتغيير قيمي أن يحدث إلا بشكل تدريجي ومن خلال تفاعلات داخلية وبينية معقدة تلعب فيها المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية والدينية أدوارها الخاصة، حتى في الحالات الفردية.

وللتفاعلات الدولية، السلمي منها والحربي، دورها في توجيه وتشكيل هذه العملية أيضا. فعلينا أن لا ننسى في هذا الصدد أن الحداثة بالنسبة للمجتمعات الشرقية والنامية جاءت نتيجة احتكاكات عنيفة مع المجتمعات الغربية، وأنها تبقى إلى حد ما "مستوردة" و "خارجة عن السياق،" بمعنى أنها لم تنبع عضويا من صيرورات ونقاشات ومواجهات فكرية داخلية، على الأقل في المراحل الأولى لتغلغلها في هذه المجتمعات، وأنها تبقى وثيقة الارتباط بشخصيات ومؤسسات وأحداث غربية المنشأ.

وما تزال هذه النشأة الخارجية لقيم الحداثة تستخدم كوسيلة أساسية وفاعلة لمقاومتها من قبل التيارات الأصولية والمتشددة في المجتمعات الشرقية والنامية، بما فيها المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من قرن أو قرنين، بحسب المنطقة الجغرافية قيد الاعتبار، على بداية توغّل هذه القيم فيها، وعلى الرغم من تبني معظم الشرائح المجتمعية الشرقية والنامية لبعضها، وإن بدرجات متفاوتة. إذ تبقى النزعة القبلية متجذرة في النفس البشرية، ويبقى كل وافد إليها من خارجها، شخصا كان أم فكرا، مشبوها.

لكن رفض بعض الشرائح والتيارت السياسية للأفكار والقيم الحداثية ليس ظاهرة حصرية بالمجتمعات ذات الغالبية المسلمة، ولا يشكل إدانة لدين بعينه، بل تكمن المشكلة أساسا في الشرائح الرافضة وفي كيفية تعاملها مع المجتمع من حولها، وكيفية تعامل هذا المجتمع معها، وما يحكم هذه العلاقة التفاعلية من تصورات وآليات ومؤسسات.

وإن كان لمسألة الهوية أثرها في هذه الظاهرة، سنجد عند تحليلنا لها أن للقضايا التنموية والاقتصادية دورها الذي لا يقل أهمية عنها، خاصة في تلك الحالات التي تتخذ فيها ظاهرة رفض الحداثة منحى عنفيا.

من ناحية أخرى، وفي ما يتعلق بمسألة الهوية بالذات، فحتى في تلك المجتمعات التقليدية التي كان للدين فيها الدور الأكبر في تحديد الهوية، تبقى النزعة القبلية هنا أهم من النزعة العقائدية. إذ لا يتعلق بالضرورة انتماء المرء إلى دين أو طائفة بعينها بمدى إيمانه والتزامه بتعاليم فئته، خاصة في حال وجود علاقة إشكالية لها مع الفئات الأخرى نابعة عن طبيعة تعاليمها، أو حجمها الديموغرافي، أو أية ظروف خاصة أخرى.

وقد يكون الرفض في الكثير من الحالات رفضا سلوكيا غير مقصود أو واع، بل قد يتناقض مع المبادئ المعلنة للأفراد والشرائح الرافضة. فالأفكار تتغير بأسرع مما تتغير به التصرفات والعادات والعقليات. وقد تتغير أفكار المرء دون أن تتغير نفسيته أو عقليته، سواء استوعى ذلك أم لا. وهذا ما يفسر لنا ذلك التناقض الصارخ في بعض الأحيان وبعض المجتمعات ما بين سلوكيات وتصرفات أتباع التيارات الحداثية من ليبراليين ويساريين، على مشاربهم المختلفة، وبين الأفكار والمبادئ المؤسسة لتياراتهم. ولا يتوقف الأمر على التصرفات والسلوكيات اليومية والقضايا العائلية بل يتعدى ذلك ليشمل الخيارات السياسية لأتباع هذه التيارات والتي قد يكون لمسألة الهوية والانتماء القبائلي دور أكبر من المبادئ في تحديدها. ولهذه الظاهرة تجلياتها حتى في المجتمعات الغربية، لكن تجلياتها في المجتمعات الشرقية والنامية تبقى أكثر انتشاراً ونفوذاً لأن جذور الحداثة فيها ماتزال أضعف.

تبقى الحداثة إذن بما تجلبه معها من قيم جديدة وتحديات سلوكية وبنيوية مسألة إشكالية حتى بالنسبة لتلك التيارات السياسية والشرائح المجتمعية التي قررت القبول بها، أو على الأقل التعامل معها بشكل أكثر انفتاحاً وأريحية، ولا تقتصر ظاهرة الرفض التي تشهدها المجتمعات المختلفة، الشرقية منها والغربية، على الموقف الآيديولوجي للأفراد أو الجماعات، فهناك أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية تجعلها خيارا إشكاليا حتى لمن آمن بها. ولعل العنف الذي تلجأ إليه بعض الجماعات كوسيلة للتعبير عن رفضها لقيم الحداثة يرتبط، بشكل جزئي على الأقل، بذلك التناقض الصارخ مابين أفكار مدعي الحداثة وبين سلوكياتهم وحساباتهم وخيارتهم السياسية على أرض الواقع. وما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة على خياراتهم وحساباتهم السياسية.

---------------------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.