فلسطينيون يصلون في مسجد الخالدي في غزة في ثالث أيام رمضان
مسلمون في مسجد، أرشيف

بقلم عمار عبد الحميد

في خضم المواجهات التي يقوم بها المسلمون اليوم، على اختلاف أعراقهم وقومياتهم ومشاربهم وتوجهاتهم، مع تحديات العيش في عالمنا "الحديث"، ذلك العالم الذي ماتزال مشاركتهم في بنائه والتأثير على مجرياته هامشية إلى درجة كبيرة، هناك مغالطة كبيرة بات لزاماً عليهم أن يتفادوا ارتكابها لما في ذلك من تبديد لجهودهم وطاقاتهم النفسية والفكرية.

تنبع المغالطة من الاعتقاد أن للإسلام دورا استثنائيا في حياتهم: فهو إما المشكلة الأساسية التي ينبغي عليهم مواجهتها ومعالجتها، أو أنه الحل الأمثل والأنجع الذي لا يمكن لغيره أن ينتشلهم مما هم فيه من تخلف وجهل.

لكن الواقع أن تخلف المجتمعات ذات الغالبية المسلمة اليوم ينبع في الدرجة الأولى من غياب الإرادة السياسية في التغيير، والدليل أن دولاً ذات غالبية مسلمة مثل ماليزيا وإندونيسيا وتركيا ومن خلال تبنيها لأنظمة سياسية أكثر انفتاحاً وديموقراطية، على الأقل نسبياً، مما هو سائد في الدول العربية، استطاعت أن تحقق درجة جيدة من التنمية والتقدم على الرغم من وجود تيارات محافظة بل ومتشددة فيها.

نعم، ما تزال هذه الدول تعاني من مشاكل جمة تتعلق ببعض العادات والمعتقدات الدينية الإسلامية أو المؤسلمة، لكن هذا لا يعني أن الإسلام هو المشكلة الأساسية فيها. لأن ظاهرة الصدام والصراع بين قيم الحداثة من جهة والعادات التقليدية السائدة في المجتمعات من جهة أخرى هي ظاهرة عالمية الطابع لا تنجو منها حتى المجتمعات الغربية التي نشأت قيم الحداثة من تفاعلاتها الخاصة، إذ ماتزال ظاهرة الصراع ما بين قيم الحداثة، تلك القيم التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق القانونية الدولية، وبين العادات والمعتقدات المرتبطة بالديانات التقليدية مثل الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية وغيرها، تفرز تناقضات كثيرة في كل المجتمعات البشرية، وهذا ما يعطي كل منها خصوصيته الحالية، فنجد دولة مثل الهند تنجح في تطوير تقنيات تمكنها من إطلاق الأقمار الصناعية في ذات الوقت الذي تستمر فيه معاناتها من التبعات الهائلة الاجتماعية والسياسية لنظام الكاست. وجاء نجاح الهند نتيجة لوجود قناعة حقيقية بضرورة التغيير والتحديث عند النخب المتنفذة وإرادة سياسية كافية لديها لتبني السياسيات المناسبة لتحقيقه، أما الفشل فيعود لصعوبة تغيير العادات والتقاليد الراسخة والتي يؤمن كثيرون بقداستها.

فالتغيير هنا لا يعتمد على التعليم فقط وتقليص الفجوة التنموية ما بين الريف والمدينة بل على القدرة على إفراز قفزة أو طفرة في الوعي الفردي والجمعي للناس وهو أمر لا يحدث إلا من خلال التجربة والسياق التاريخي على مدى عقود من الزمن ولا يمكن فرضه أو تعجيله بالقوة. ويشكل وجود تيارات سياسية ترى في استغلال المقدسات ومعارضة التغيير وسيلة لتحقيق مآرب بعينها عقبة كبيرة على الطريق. وتوجد هذه التيارات في كل المجتمعات، وعادة ما يطلق عليها في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة التيارات السلفية أو الإسلامية أو الإخوانية.

وتجيد هذه التيارات التلاعب بمشاعر الناس من خلال اللعب على وتر المقدس مع خلطه بالنزعات القومية وصراعات الهوية المحلية، لكن الهدف الأساسي لها يبقى دائماً مرتبطاً باشتهاء السلطة. إن المجازر البشعة التي يقودها الرهبان البوذيون في ميانمار ضد الروهينجا، الأقلية المسلمة في دولتهم، لا تنبع من عداء حقيقي حيال المسلمين بقدر ما تهدف إلى تحسين موقف تيارهم السياسي وتحسين العلاقة بينه وبين القيادات العسكرية التي ماتزال تدير شؤون الدولة من وراء الستار. وربما كان الأمر محاولة لخلق هوية بوذية جامعة لهذه الدولة متعددة القوميات والأعراق التي تؤمن غالبية شعوبها بالديانة البوذية وتنتمي إلى طائفة التيرافادا.

الهدف من وراء هذه الملاحظة هو التنبيه إلى محورية الصراعات والأجندات السياسية في ما يتعلق بكل هذه التطورات، وإلى كون الدين مجرد وسيلة للتعبئة والتجييش. إن التعامل مع الدين على أنه المشكلة الأساسية يخدم قضية من يطرحونه كالحل الوحيد ويسهل عليهم مهمة تصوير خصومهم السياسيين على أنهم أعداء للدين والأمة. ولهذه الظاهرة تجلياتها في كل المجتمعات، وغالباً ما تتخذ هذه التجليات منحى عنفياً في المجتمعات التي تعاني من مشاكل تنموية عميقة ومن هشاشة بنيتها السياسية مما لا يسمح لها بوقاية نفسها من التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية.

لا يشكل الإسلام والمجتمعات الإسلامية إذن حالة استثنائية. نعم، للمجتمعات الإسلامية خصوصياتها من دون شك، لكن الخصوصية شيء والاستثنائية شيء آخر. إن إصرار المتطرفين على التعامل مع وجودهم ومعتقداتهم على أنها استثنائية الطابع يعكس وجود عقد نقص بعينها عندهم كأفراد، وعلى وجود طموحات وأجندات سياسية خاصة عند النخب المؤثرة في صفوفهم، لكن المتشددين في خاتم المطاف لا يملكون حلولاً للمشاكل التنموية والاجتماعية التي تواجها مجتمعاتهم بل هم في الواقع جزء من هذه المشاكل، ولا يمكن لهم أن ينموا كتيارات وجماعات سياسية إلا من خلال استثمارها واستدامتها، مما يجعلهم الوجه الآخر للأنظمة الاستبدادية.

وللحديث بقية.

------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.