مسلمون يؤدون صلاة عيد الفطر في نيويورك
مسلمون يؤدون الصلاة، أرشيف

بقلم عمار عبد الحميد

عالجنا في مقال سابق الإشكالية الناجمة عن الاعتقاد بأن للإسلام دورا استثنائيا في الحياة، خاصة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، داعين إلى ضرورة التفرقة ما بين مفهومي الخصوصية والاستثنائية. فلكل دين ومعتقد خصوصياته من حيث التقاليد والممارسات والمصطلحات، لكن هذه الخصوصيات لا تقتضي وجود فارق جوهري في الدور المجتمعي الذي يلعبه هذا الدين، الإسلام في نقاشنا، بالمقارنة مع ذلك الذي تلعبه معظم الديانات التقليدية الأخرى (المسيحية، البوذية، الهندوسية...) في مجتمعاتها، على الأقل في ما يتعلق بالمجتمعات النامية.

لكن الإشكالية لا تقتـصر على دور الإسلام في المجتمع وحسب، بل تتعدى ذلك لتشمل طبيعة تعاليمه كدين ومنهج. فحتى من هذا المنطلق، لا يعد الإسلام ديناً استثنائياً، فثلة الافتراضات التي يقوم عليها لا تختلف نوعياً عن تلك التي قامت أو تقوم عليها المسيحية واليهودية مثلاً، من بين غيرها من الديانات الشرق أوسطية والكثير من الديانات التقليدية الأخرى، من حيث الإيمان بوجود خالق معين (أو أكثر) لهذا الكون ميّز عبر التاريخ بعض الشخصيات والمجتمعات من خلال تواصله معها في محاولة منه لتنظيم العلاقة ما بينه وبين المجتمعات البشرية ككل.

وتنطبق هذه الملاحظة أيضاً على المسلمين عامة، فطالما أن الإسلام ليس ديناً استثنائياً كذلك المسلمون، فهم أيضاً، وعلى اختلاف مذاهبهم وأعراقهم وقومياتهم، ليسوا شعوباً استثنائية، لا بالمعنى السلبي ولا الإيجابي. بل هم بشر كسائر البشر، عرفوا النصر في تاريخهم وذاقوا الهزيمة، خبروا المجد في بعض الأحيان وتجرّعوا الذل في أخرى، تماماً كباقي الشعوب. وهذا يعني أن للنصر والهزيمة، وللتقدم والتخلف، ولقيام الدولة وسقوطها، شروطا ومقومات لا علاقة لها بالدين، حتى لو كان هذا الدين هو الإسلام. فما معنى الإصرار على استثنائية الإسلام ودوره في الحياة إذن؟

قد تبدو هذه التصريحات بدهية للوهلة الأولى، لكنها في الواقع تتعارض مع الكثير من الطروحات السياسية والفكرية الفاعلة في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة (وغيرها) وبالتحديد مع الطروحات الإسلاموية، وهو الأمر الذي يسبغ عليها طابعها الفاشي المميز، لأن الهدف الأساسي وراء الطرح الاستثنائي هنا هو ادعاء التفوق والأفضلية، خاصة في المجال الأخلاقي، بصرف النظر عن أية ظروف أو شروط موضوعية ما خلا ولادة المرء ونشأته في بيئة دينية معينة. في عصر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لم تعد هذه الطروحات الاستثنائية مقبولة أو مبررة حتى في إطار الدول القومية. إذ لا يسبغ كون المرء مسلماً عليه أي تفوق مسبق أخلاقي أو معنوي، ولا ينبغي له أن يمنحه أفضلية في التعامل لا في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة ولا في غيرها. كما لا تلتصق بالمسلم أية دونية أخلاقية أو معنوية نتيجة انتمائه للإسلام، سواء التزم بتعاليمه أم لم يلتزم، وتخطئ كل الدول والمجتمعات، غربية كانت أم شرقية، نامية أم متطورة، ديموقراطية أم استبدادية، التي تفرض قوانين أو تتبنى ممارسات تمييزية ضد المسلمين، بصرف النظر عن المبررات.

ومرة أخرى نقول: قد تبدو كل هذه التأكيدات والتصريحات منطقية وبدهية للوهلة الأولى، لكن ثقافاتنا التقليدية تبقى مجبولة بثلة من الممارسات التي تتناقض معها، كاحتفائنا المستمر بانتمائنا لدين بعينه وإصرارنا على كونه "الحل" لمشاكلنا حتى في الوقت الذي نبقى فيه غارقين في مستنقع الاستبداد والتخلف، في حين يبدو واضحاً أن تقدم المجتمعات الأخرى ليس مرتبطاً بعلاقتها مع الأديان لا من حيث التمسك ولا التخلي.

فمن منطلق موضوعي، يبدو واضحاً أن الخالق (أو الكون) لا يذلّ أو ينقم على قوم نتيجة سوء التزامهم بدين ما، أو حتى تخليهم عنه، بل تنجم معاناتهم عن فشلهم بالتعامل مع القوانين الموضوعية للوجود بشكل ناجع. أو لنقل أن رضى الخالق يبدو أكثر ارتباطاً بقدرة الناس على استيعاب القوانين الموضوعية للوجود وعلى التعامل الناجع معها منه بمسألة الالتزام بطقوس أو ممارسات أو شعائر بعينها.

ولهذا، بوسعنا أن نؤكد مرة أخرى على أن المسلمين ليسوا شعوباً استثنائية، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية الثقافية، بل ولا من حيث مظلومياتهم السياسية والاجتماعية المعاصرة، ولا يشكّل إصرارهم على الطروح الاستثنائية من الناحية العملية إلا استدامة لكل الأمراض التي تعاني مجتمعاتهم منها، ورفضاً للتغيير، بل مقاومة عدمية له، لأن إصرارهم على التمسك باستثنائيتهم، وضعاً ومعتقداً، لم يفرز حتى اللحظة حلاً لأي من المشاكل والتحديات التي تواجههم، بل أصبح من الواضح أنه يمثل عائقاً أساسياً أمام قدرتهم على التعلم من الشعوب الأخرى وعلى استيعاب القوانين الموضوعية للوجود بمضامينها العميقة التي لا تحابي أحداً ولا تفرق بين الناس، أفراداً كانوا أو جماعات، إلا بناءً على طاقاتهم وأعمالهم وقدراتهم التنظيمية الخاصة.   

إن الإصرار على تجاهل هذه المعطيات الموضوعية ينبثق عن عقلية أو ذهنية معينة وليس فقط عن موقف إيديولوجي، كما نوهنا في مقال آخر، فعلى الرغم من وجود تيارات فكرية وسياسية ترفض من حيث المبدأ الطروحات القائمة على الإيمان بالطبيعة الاستثنائية لفكر أو شعب بعينه، غالباً ما تنم تصرفات أتباع هذه التيارات عن تأثر مستمر وعميق بالطروحات الاستثنائية نتيجة نشأتهم في ثقافة تقليدية مشبعة بها. ومن هذا المنطلق، لا مفر لمجتمعاتنا وشعوبنا من المرور بمراحل الغليان التي نعيشها اليوم لأن الوعي، الفردي منه والجمعي، لا يُصاغ ولا يُشكل إلا من خلال مروره في آتون التجربة.

------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.