نصب ثيودور هرتزل
نصب ثيودور هرتزل | Source: Courtesy Image

بقلم صامويل تادرس/

تحية واجبة للحركة الصهيونية

تمر هذا الأسبوع ذكرى انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بمدينة بازل بسويسرا في عام 1897. البداية لم تكن مبهرة: 208 أعضاء يمثلون مجموعات يهودية مختلفة من أقاصي الأرض لبوا دعوة ثيودور هرتزل. اضطر المنظمون لنقل مكان انعقاد المؤتمر من ميونخ إلى بازل نتيجة الرفض الشديد من قبل قادة يهود المدينة. الفكرة الصهيونية نفسها كانت مرفوضة من قبل القادة الدينيين لليهود الأرثوذكس والإصلاحيين. طرفا النقيض في الساحة الدينية اليهودية لم يرحبا بالفكرة.

في مذكراته اليومية كتب هرتزل بعد انتهاء المؤتمر: "في بازل أسست الدولة اليهودية. لو قلت ذلك اليوم سأقابل بسخرية عالمية. ربما بعد خمس سنين، بالتأكيد بعد خمسين، سيدرك الجميع ذلك". بعد خمسين سنة من قوله هذا وافقت الأمم المتحدة على قرار تقسيم أرض الانتداب البريطاني في فلسطين. في أقل من عام بعدها أعلنت الدولة.

في نجاح المشروع الصهيوني دروس عدة.

أدرك المؤسسون للحركة الصهيونية مبكراً أزمة الحداثة. حررت الحداثة البشرية من قيود العصور الوسطى، وفتحت المجال للإنسان ليبدع وينطلق، قفزت بالبشرية قفزات في شتى المجالات العلمية. لكن الحداثة أتت بأزمتها المزمنة. مكيافيلي أبو الحداثة رفض فلسفة ما قبل الحداثة في بحثها عن الحقيقة المطلقة والحياه الأخلاقية. صار الإنسان هو سيد هذا الكون. حررت الحداثة الإنسان من التقاليد لكنها فشلت في تقديم بديل. عملية التحديث أدت إلى اقتلاع البشر من المجتمعات الريفية مدمرة شبكات الضمان الإنساني. عملية التحديث من التصنيع، الهجرة إلى المدينة، والتعليم الواسع زادت من الشعور بالوحشة. نشأت الأيدلوجيات التوليتارية لتملأ الفراغ: الفاشية، الشيوعية، ومعاداه السامية. ليست هذه مشاكل جانبية، الأيدلوجيات التوليتارية هي نتاج أكيد للحداثة.

المشروع التنويري لم يكن أفضل حالاً. ظن اليهود على مدى قرن من الزمن أن وعود الثورة الفرنسية بالعدل، والإخاء، والمساوة قابلة للتحقق. ظنوا أن بإمكان اليهودي الاندماج في المجتمعات التي يعيش فيها. المفكر اليهودي موسى هيس أدرك المشكلة مبكراً. كتب في عام 1862: "بسبب كل الكراهية المحيطة به، اليهودي الألماني يصمم على التخلص من كل علامات يهوديته وينفي عرقه. ولكن حتى تحوله إلي دين آخر لا يمكن أن يخلص اليهودي من الضغط الهائل لمعاداة السامية الألمانية".
 

هرتزل نفسه كان أسيراً لهذا الحلم قبل 1894. محاكمة دريفوس كانت بمثابة صدمة. سوف يكتب بعدها: "فرنسا معقل التحرر، والتقدم، والاشتراكية العالمية يمكن أن تتعثر في عاصفة من معاداة السامية حيث يهتف الحشد الباريسي الموت لليهود. الاندماج لن يحل المشكلة لأن العالم غير اليهودي لن يسمح لهم". أفران الغاز في الهولوكوست سوف تؤكد صواب التحليل.

وضعت الحركة الصهيونية لنفسها هدفا واضحاً منذ نشأتها: إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين. لكنها لم تركن إلى هدف بعيد المنال من دون توفير الوسائل اللازمة لتحقيقه. الكثير من الحركات السياسية الأخرى فشلت في تحقيق الهدف النهائي لعدم وجود أي خطة تطبيقية لتحقيقه. في مؤتمر بازل حددت الحركة الصهيونية أربعة أهداف ثانوية لتحقيق الحلم: أولاً، "دعم استيطان المزارعين، الصناع، والتجار اليهود في فلسطين". الحلم لا يمكن تحقيقه من قبل الغير. في كتابه الدولة اليهودية 1896، يكتب هرتزل: "الأمر يعتمد على اليهود أنفسهم إن كانت هذه الوثيقة ستظل في الوقت الحاضر مجرد رومانسية سياسية"، هاجر اليهود إلى فلسطين، أقاموا مجتمعات جديدة، وضعوا أسس دولتهم.

ثانياً "تنظيم الوجود اليهودي خارج فلسطين في مجموعات ومنظمات". المشروع سيقام في فلسطين لكن من دون التنظيم الداخلي في الدول الأوروبية سيظل حلماً بعيد المجال. الكثير من الشعوب والحركات السياسية كانت لديها طموحات مماثلة أو حتى أوقع في التحقق. الفرق هاهنا في التنظيم. مشروع من دون قيادة هو مشروع غير قابل للتحقق. مشروع من قادة فقط هو مجرد أحلام مثقفين.

ثالثاً "تقوية الشعور والوعي اليهودي". لم تخترع الحركة الصهيونية فكرة رجوع اليهود إلى أرض آبائهم. على مدى أكثر من ألفي عام ظل اليهود يحلمون بهذه العودة. "العام القادم في أورشليم،" كانت هذه الجملة تتكرر كل عام على لسان كل يهودي في عيد الغفران. هاجر على مدى القرون عشرات الآلاف من اليهود إلى فلسطين. أدرك هرتزل قوة هذه الفكرة، كتب "الفكرة التي قمت بتطويرها في هذا الكتيب هي فكرة قديمة. إنها استعادة الدولة اليهودية". بعكس الحركة الصهيونية قامت حركة قومية أخرى في المنطقة بمحاولة خلق هوية غير حقيقية و فرضها على المجتمعات. دفعت شعوب المنطقة الثمن غالياً.

ركز هرتزل مجهوداته على الجانب السياسي. غيره قام بالاهتمام بالجوانب الثقافية. أهاد هام رفض فكرة دولة لليهود، أرادها دولة يهودية. يجب خلق إنسان يهودي جديد. اليهود في الشتات فقدوا هويتهم، وبدون إعادة هذه الهوية فإن مصير الدولة الموعودة هو الفشل. ضمن الـ208 الذين حضروا المؤتمر الأول كانت 17 امرأة. في المؤتمر الثاني في 1898 سوف تحصل المرأة اليهودية على حق التصويت. من دون المرأة اليهودية كشريك مساو للرجل اليهودي لا يمكن تحقيق المشروع.

رابعاً "البحث عن الدعم الحكومي الدولي اللازم". فالمشروع لا يمكن صنعه في فراغ. أي فكرة أو أيدلوجية محكومة بالواقع حولها. سوف يزور هرتزل إسطنبول بحثا عن قبول عثماني، سيضع آماله على عتبة ألمانيا القيصرية. حاييم وايزمان سينجح في الحصول على الدعم البريطاني من خلال وعد بلفور. الدولة الوليدة سوف تحصل على الاعتراف الأميركي والسوفياتي في لحظتها الأولى.

بعيداً عن نظريات المؤامرة المسيطرة على العقل الجمعي العربي، الحركة الصهيونية لم تجد أرضاً ممهدة أمامها. لم يكن اليهود في موقع يسمح لهم بتحقيق حلمهم. كان يهود شرق أوروبا عرضة لهجمات بربرية دائمة حتى أوائل القرن العشرين. وواجه يهود غرب أوروبا الكراهية. حتى في العالم الجديد لاحقتهم معادة السامية. الدولة الوليدة واجهت خطر الإبادة منذ يومها الأول. نجاح الحركة الصهيونية في ما فشلت فيه غيرها لم يكن صدفة. نجاح الحركة الصهيونية يحمل دروساً ظلت غائبة عن الشعوب المتحدثة بالعربية.

-----------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.