مصريون مشاركون في مظاهرة ضد نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عام 2011_أرشيف
مصريون مشاركون في مظاهرة ضد نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عام 2011_أرشيف | Source: Courtesy Image

بقلم عمار عبدالحميد/

من أين ينبع الفساد في المجتمعات العربية المعاصرة: من رغبات الحاكم وتصرفاته أم من صنائع وفعال حاشيته؟ هذا هو السؤال الذي تمحورت حوله حلقة برنامج " تقرير خاص " التي كان لي شرف المشاركة فيها مؤخراً. وكان جوابي على هذا السؤال أن مشكلة الفساد التي تواجهنا في مجتمعاتنا المعاصرة عموماً هي أكبر من قضية الحاكم وحاشيته وتنبع من الطبيعة الخاصة لثقافتنا السياسية السائدة والتي تشكّلت في بيئة استبدادية يعد فيها الحفاظ على السلطة واستدامتها الهدف الأول والأساسي للحاكم.

ومن هذا المنطلق يصبح الفساد واحداً من الأدوات الأساسية للحكم كونه أحد أهم الوسائل لمكافأة الولاءات. إذ لا يشكل توزيع المناصب على المخلصين خطوة كافية في هذا الصدد ما لم يتم السماح لهم باستخدامها للتحصّل على منافع مادية من خلال جملة من الترتيبات غير الرسمية، وهذا بالذات هو التعريف القاموسي للفساد. هذا علاوة على أن الحاكم نفسه، وفي غياب آليات حقيقية للمكاشفة والمساءلة الشعبية، بل وفي إطار سياق تاريخي لم تكن فيه مسألة وجود هذه الآليات وضرورتها مطروحة أساساً، طالما اعتاد على اعتبار نفسه المتصرف والمتنفذ الأول والأخير في كل ما يتعلق بموارد الدولة، بل هكذا تعامل الناس معه، شعباً وحاشية. في ظل ثقافة من هذا النوع، كان من الطبيعي أن ينظر الحكام إلى المطالبات الشعبية بالشفافية والمساءلة وتداول السلطة ومحاربة الفساد على أنها تعدّ على شخصهم، وأن يتم التعامل معها كنوع من العصيان والتمرد على السلطة بل وعلى شرعية الحكام أنفسهم.

وفي سياق تاريخي لم يعتد فيه الحاكم على مكافأة الولاءات وإدارة آليات الفساد في الدولة فحسب، بل على التعامل مع شعبه كمكونات منفصلة، في غياب ومن ثم تغييب مقصود لمفهوم المواطنة، أصبح التفتت الاجتماعي هو القاعدة في معظم الدول وأصبح الفساد مرتبطاً بشكل وثيق بذات الآليات والمؤسسات المسؤولة عن الاستبداد والتفتيت وأصبحت مكافحة الفساد تستدعي نقاشاً ومعالجة جدية للعلاقات القائمة ما بين المكونات والمناطق المختلفة في كل دولة، وليس فقط للعلاقة ما بين الحاكم والمحكوم. وبالتالي أصبحت مسألة الفساد ومكافحته مرتبطة بشكل وثيق بقضية الهوية وليس فقط بقضية الحكم وشخصية الحاكم وحاشيته وسلوكياتهم.   

وإذ كان الصحفي الأميركي المعروف توماس فريدمان قد تحدث مؤخراً، وإن بشكل عابر، عن حاجة الدولة في كل من سوريا والعراق إلى "قبضة حديدية" تحكمها بغية الحفاظ على وحدتها، وأشار إلى السرعة التي انهارت بها الدولتان عندما تم رفع هذه القبضة عنهما، فمن الواضح أنه في معرض حديثه هذا يبدي جهله السافر بدور هذه القبضة الحديدية في تفتيت المجتمعات المحلية في البلدين وغيرهما من البلدان العربية ومساهمتها بالتالي في تفعيل الإضطرابات والمواجهات الطائفية وفي إضرام نيران الحروب الأهلية. وفي الواقع، لا يتناسب الإصرار على ضبط الأمور من خلال القبضة الحديدية إياها على الإطلاق مع متطلبات التطوير والتحديث المجتمعي، ولا يحقق إلا استقراراً مؤقتاً وزائفاً، وتبقى الديموقراطية على علاتها الوسيلة الأنجع لإدارة المجتمعات المفتتة بالذات لأنها مفتتة.

لكن الانتقال نحو الديموقراطية والمساءلة الشعبية يتطلب وجود إرادة حقيقية عند النخب السياسية في تحقيق هذه النقلة النوعية وهذا بدوره يتطلب تشكّل قناعة لديهم بضرورة إحداث هذه النقلة. ولكن كيف يمكن لهذه القناعة أن تتشكّل في ظل الثقافة السياسية الشعبية السائدة، وفي ظل ارتباط المصالح المادية الشخصية للحكام وحاشيتهم بالأنظمة والمؤسسات القائمة وتغلغل الفساد في سائر الطبقات والنشاطات الاجتماعية، وفي سياق الارتباط المصيري لمسألة الهوية الجمعية للمكونات الاجتماعية المختلفة بموضوع التغيير السياسي والمجتمعي؟

من أين يبدأ التغيير في هذه الحال؟ هذه هو السؤال الذي يختزل جوهر المعضلة التي تواجه معظم المجتمعات العربية المعاصرة.

بالعودة إلى مشاركتي في برنامج " تقرير خاص، " أكرر ما قلته في ختامه: يبدأ التغيير الحقيقي في مجتمعاتنا من اللحظة التي يدرك فيها المواطن أنه هو نقطة البداية في عملية التغيير وأنه هو المسؤول الأساسي عنها وليس الحاكم أو حاشيته. الحكام ليسوا الحل: نحن الحل.

هذا بالفعل ما أدركه كل من شارك في تفعيل ثورات الربيع العربي. ويخطئ جداً كل من يعتقد أن هذه الثورات قد باءت بالفشل لأنها لم تنجح في تغيير شخصيات بعينها مثل رأس النظام السوري وغيره، أو لأنها فتحت الأبواب على اتساعها أمام كل أصناف القمع والعنف والتدخلات الإقليمية والدولية. على العكس، لقد أحدثت هذه الثورات تغييرات جذرية عميقة في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة بأسرها، علاوة على بناها المجتمعية الأساسية، حتى في تلك الدول التي لم تشهد تحركات ثورية في هذه المرحلة، لكن، لا يمكن لمعالم هذه التغيرات، بسلبياتها وإيجابياتها، أن تتضح إلا بالتدريج وعبر عقود قادمة. هذه هي طبيعة الثورات الشعبية وتوابعها. ولا يمكن للاضطرابات العنيفة أو للمواجهات والتصفيات والاصطفافات الداخلية ولا حتى للتدخلات الخارجية أن تزيل مشروعية التحركات الشعبية التي حصلت وتحصل في المنطقة، إذ يشكّل هذا الأمر أيضاً واحداً من التوابع الأساسية للثورات الشعبية وطريقة لتوثيق الروابط ما بين الصيرورات المحلية والعالمية.

وعلى أية حال، لم تنته هذه المرحلة الانتقالية الثورية بعد، إذ مازالت القدر تغلي بما فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.