"هناك فرق كبير ما بين الترويج لفكر سياسي معين، وبين السعي لضم واحتلال أراضي الآخرين"
"هناك فرق كبير ما بين الترويج لفكر سياسي معين، وبين السعي لضم واحتلال أراضي الآخرين"

 بقلم عمار عبدالحميد/

على الرغم من أن مصطلح الإمبريالية غالباً ما يستخدم هذه الأيام عند الكلام عن الحروب التوسعية التي شنتها الأمم الغربية خصوصاً على حساب الدول والممالك الأخرى، فإن الظاهرة بحد ذاتها، أي ظاهرة الحروب التوسعية الرامية إلى احتلال أراضي الغير وضمها إلى دولة أو مملكة بعينها بصرف النظر عن رغبة سكانها الأصليين، ظاهرة قديمة قدم التاريخ وطالت كل المجتمعات والدول، وماتزال. إذ يبدو أن النزعة الإمبريالية/الاستيطانية توجد متجذرة في التركيب البنيوي أو الجيني ذاته للدول والجماعات. فإن كانت الشعوب قد أدركت ومنذ آلاف السنين أن احتلال أراضي الغير واستيطانها يعد عملاً مستنكراً وفعلاً شنيعاً، لم يكن من الممكن لهذا الإدراك بحد ذاته أن يلغي الدوافع والمصالح الكامنة وراء المطامح الإمبريالية، العقلاني منها، أي ذلك المرتبط بتحقيق مصالح مادية واقتصادية واستراتيجية معينة، والذاتي، أي ذلك المتعلق بشخصية الحاكم أو النخب الحاكمة، واقتصر دوره على "إجبار" القوى الإمبريالية على تبرير حملاتها الاستعمارية بوسائل مختلفة بما في ذلك: إنكار إنسانية الغير ككل، كما كان دأب قبائل ما قبل التاريخ بحسب بعض الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، أو اعتبارهم أدنى شأناً لاختلاف ما في الدين أو العرق أو اللغة أو الثقافة، أو إسباغ دوافع نبيلة على الحروب التوسعية مثل الادعاء أننا "جئنا لنخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام،" كما فعل المسلمون الأوائل، أو الاعتقاد بأن القدر ألقى على عاتقنا عبء القيام بـ "مهمة نشر الحضارة Mission Civilizatrice" أو عبء الرجل الأبيض White Man’s Burden، كما أدعى المستعمرون الأوروبيون في القرون السابقة.

وقد يسرع البعض هنا ليضيف المساعي الحينية (أي المتفرقة) للولايات المتحدة الأميركية لنشر الديموقراطية إلى اللائحة السابقة، لكن ينبغي توخي الحذر هنا، فهناك فرق كبير ما بين الترويج لفكر سياسي معين، وبين السعي لضم واحتلال أراضي الآخرين. فمن الواضح لمن يتابع التاريخ الأميركي المعاصر والمشهد السياسي الأميركي أن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، على الأقل بعد الحرب العالمية الثانية، لم تهدف أبداً إلى التوسع والاستيطان أو بناء المستعمرات بل إلى تحقيق مكاسب معينة مرتبطة بالمواجهة مع الاتحاد السوفييتي أبان الحرب الباردة وبالحرب على الإرهاب العالمي مؤخراً. ولا يشرعن تأكيدنا هذا التدخل الأميركي في أي من الدول، ولا يبرره، فليست هذه القضية المطروحة هنا، كما أنه لا ينفي وجود نزعة إمبريالية مستحدثة ومستبطنة مختلفة عما عهدناه سابقاً، نزعة نابعة من مطامح ومصالح وحسابات القوى المتدخِّلة والتي قد لا تنسجم بالضرورة مع مصالح شعوب الدول المستقبلة لهذا التدخل. 

وهنا بيت القصيد.

لقد قامت الإمبرطوريات الغربية عبر العقود الماضية بتفكيك نفسها وبوضع قيود جديدة على تصرفاتها في مجال السياسة الخارجية جعلت من الارتكاس إلى النزعة الإمبريالية التقليدية أمراً في غاية الصعوبة، إذ لم يعد تقديم المسوغات والمبررات أمراً كافياً لتبرير التدخل في شؤون الدول الأخرى، بل أصبح من الضروري وضع ضوابط معينة له ولأدواته، بما في ذلك: بناء التحالفات الإقليمية والدولية لشرعنة التدخل، وتحديد الأهداف المزمع تحقيقها، ووضع جدول زمني ما لذلك، إلى آخر ما هنالك من قيود وشروط. وإن كانت هذه الخطوات تبقى قاصرة في ما يتعلق بمقاومة النزعات الإمبريالية عند الدول، لا ينفي هذا القصور أنها ساهمت، على عواهنها، في تغيير قواعد اللعبة على نحو جذري.

هناك ثلاثة أسباب أساسية وراء هذا القرار الغربي بالتخلي عن النزعة الإمبريالية: أولاً، رغبة القوى العظمى في تحقيق توازنات جديدة تجنبها مغبة الاقتتال البيني، ثانياً، رغبة الشعوب التي كانت خاضعة للاحتلال الغربي في تقرير مصيرها وسعيها لتحرير أنفسها، ثالثاً، الحوار الداخلي الطويل والصعب الذي شهدته المجتمعات الغربية حول حقوق الإنسان والشعوب، وبالتالي حول مدى شرعية النزعات الإمبريالية وجدواها الاقتصادية والسياسية.

لم تتبن كل الإمبراطوريات التقليدية هذه المقاربة الغربية، فالاتحاد الروسي مثلاً، وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي، ما يزال يشكل في بنيته وجوهره إمبراطورية إمبريالية تقليدية قائمة على احتلال أراضي الغير واستيطانها واستغلال ثرواتها الطبيعية لصالح سكان المركز، وعلى قمع حقوق السكان الأصليين بمختلف الوسائل، سواء في القفقاس أو الفولغا أو الأورال أو سيبيريا.

وتسري هذه الملاحظة أيضاً على جمهورية الصين المصرة بدورها ومن خلال تواجدها في شينشيانغ والتبت على تجاهل حقوق السكان الأصليين وإرادتهم، بل تسعى جاهدة إلى تحويلهم إلى أقلية مهمشة من خلال سياسات التهجير والتوطين.

 والغريب هنا أننا نادراً ما نسمع أي انتقاد لهذا الوضع من قبل الدول والقوى التي تدعي أنها مناهضة للإمبريالية في العالم، في حين لا تتوقف وسائل إعلامها وتعليمها عن انتقاد التجربة الاستعمارية الغربية على الرغم من أنها انتهت منذ عقود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.