زوار عراقيون يحيون ذكرى عاشوراء عند مرقد الإمام الحسين في كربلاء الأحد
زوار عراقيون يحيون ذكرى عاشوراء عند مرقد الإمام الحسين في كربلاء، أرشيف

بقلم حسين عبد الحسين/

هنا في الولايات المتحدة نقاش مع الزملاء في "الحزب الديموقراطي" حول مطالبة بعضهم الحكومة الأميركية بتسديد تعويضات لسليلي العبيد المحررين، على قاعدة أن عددا لا بأس به من هؤلاء مازالوا يعيشون في الفقر، وأن فقرهم هذا سببه عبودية أجدادهم، التي أعاقت تطورهم الاقتصادي والاجتماعي. لذا، يعتقد مؤيدو التعويضات أن على الحكومة الفدرالية تسديد هذه الأموال مما تجنيه من ضرائب من الأميركيين.

تعويضات العبودية قد تبدو إنسانية وعادلة، لكن الواقع أكثر تعقيدا من هذه الفكرة البسيطة والبرّاقة، فأموال الضرائب تعني مسؤولية كل دافعي الضرائب عن تعويض العبودية، وهو ما يجافي الحقيقة، فليس كل دافعي الضرائب من سليلي من كانوا يملكون عبيدا، ولا كل الأميركيين من أصل إفريقي — المطلوب تعويضهم — ينحدرون من عبيد، وهو ما يعني أن عملية التعويض الحكومية ستخرج أموالا من جيوب من لا مسؤولية لهم، ولا لأجدادهم، عن العبودية، وقد تذهب هذه الأموال إلى جيوب من لم يكونوا يوما، ولا أجدادهم، من العبيد، أو من سليلي العبيد ممن لم يعودوا اليوم من المعوزين ماليا.

المطالبة بتعويض العبودية في الولايات المتحدة مثال بسيط على التعقيدات التي تدخل في أي عملية تحاول "التكفير عن التاريخ"، ولو طالب سليلو كل شعب بتعويضات واستعادة أراض من الشعوب التي غزتهم في الماضي، لتحول العالم إلى محكمة عملاقة ذات تعقيدات لا متناهية، ولطالب الشرق الأوسط ومصر اليونان بتعويضات عن اجتياح الإسكندر المقدوني، و لطالبت شمال إفريقيا إيطاليا بتعويضات عن اجتياحات روما، و لطالبت إسبانيا والبرتغال الدول العربية بتعويضات عن اجتياح الأندلس، وهكذا دواليك، يصبح لكل شعب مظلومية لدى شعب آخر، وتصبح كتابة التاريخ كتحرير صك تعويضات واستملاك.

في الأيام العشرة التي يتذكر فيها المسلمون الشيعة معركة كربلاء (680 ميلادية) ومقتل إمامهم الثالث الحسين بن علي، ما يشبه توريط التاريخ في الحاضر، مع فارق أن المطالب الشيعية ليست واضحة، فهم لا يطلبون تعويضات صريحة، فقط يطلبون الثأر ويلطمون أسفا على موته (وفي بعض الروايات اللطم على خذلانه وعدم مشاركته الانتفاضة ضد حكم الأمويين).

هكذا، تصبح الأيام المعروفة بعاشوراء، لا ذكرى حزن وتمسك بتعاليم الدين، بل مهرجان عويل وبكاء وسواد وتوعد بالانتقام، حتى أن بعض قادة الشيعة حولوا الذكرى إلى عنوان سياسي دائم، فأصبح كل منافس سياسي لهم "يزيد" العصر، وأصبح "الموت في سبيل الله" جزءا من معركة كربلاء المقدسة، وتحول الأسى إلى أداة لتحريض الشيعة ضد خصوم قادتهم.

وهكذا، اختلط تاريخ الشيعة بمعتقداتهم وحاضرهم، فلم يعد معروفا أين ينتهي التاريخ، وأين يبدأ الحاضر، وصار الحاضر في الغالب امتدادا لثارات تعود إلى أكثر من ألف عام، وصارت صراعات الشيعة مستدامة على مدى أكثر من ألف سنة، وتحولت حروبهم إلى أسلوب حياة دائم.

على مدى العقدين الماضيين، دأبت الأوساط الأكاديمية حول العالم على تطوير دراسات تحت عنوان "حل النزاعات"، وأنشأت حكومات العالم مجموعات تعكف على حل النزاعات والتعاطي مع آثارها. 

أثناء كتابتي هذه السطور، عرضت قناة "سي أن أن" برنامج الشهير أنتوني بوردين أثناء زيارته فيتنام العام الماضي، إذ صادفت زيارته مع زيارة الرئيس السابق باراك أوباما، حيث تناول الرجلان وجبة عشاء في أحد المطاعم الشعبية. 

يسأل بوردين مواطنة فيتنامية ممن فقدت الكثيرين من عائلتها وأحبائها، في حرب فيتنام الشهيرة ضد أميركا، عن شعورها أثناء تعاطيها مع أميركيين، وإن كانت ما تزال تكن العداء لهم، خصوصا أن متاحف فيتنام مازالت تعجّ بمشاهد عن فيتناميين يسيلون دماء أميركية. تجيب: هذه المتاحف هي للتاريخ، فإما أن نتعلم من التاريخ ولا نكرر أخطاءه ونعيش بسلام، أو نستخدمه أداة للحقن والحقد للأجيال المقبلة.

طبعا يبدو أن فيتنام اختارت أن تتعلم من التاريخ، بدلا من العيش في التاريخ، وهي لذلك أصبحت حليفة للولايات المتحدة، وصارت تنافس الصين صناعيا واقتصاديا، وراح اقتصادها ينمو، ومعه تنمو مداخيل الفيتناميين ويرتقي مستوى معيشتهم.

أما بعض الأصدقاء في "الحزب الديموقراطي"، ومن المسلمين الشيعة، فلا يبدو أنهم مثل الفيتناميين ممن يتعلمون من التاريخ للعيش في مستقبل أفضل، بل يبدو أنهم من محبي العيش في التاريخ، والتمسك به، والقسم على الثأر، وهم بذلك لا يرحمون تاريخهم، فلا يرحمهم مستقبلهم.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.