سعوديات في العاصمة الرياض
سعوديات في العاصمة الرياض

بقلم ماهر جبره/

سعدت جدا بخبر السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، لكن لفت انتباهي تعليق أحد مستخدمي موقع تويتر عن القرار قائلا: "ولكن قيادة المرأة للسيارة حرام، أليس كذلك؟"

بالفعل هذا ما قد روجه كبار شيوخ السعودية.

فقد ردد هؤلاء الشيوخ لعقود طويلة أن قيادة المرأة للسيارة حرام شرعا، لأنها تفتح باب الوقوع في المحظور، وأن المرأة ربما تقود سيارتها وتختلي برجل من غير محارمها وهذا ما قد يفتح الباب للسقوط في المعصية. وبالتالي فإن قيادة المرأة من وجهة نظرهم كانت حراما شرعا. ولكن فجأة أصدر الملك سلمان أمرا يتيح للمرأة هذا الحق، وعليه بارك الشيوخ القرار! فهل تحول الحرام فجأة إلى حلال؟ وهل تغير الإسلام؟ أم تغيرت طريقة تفكيرنا وفهمنا للإسلام؟

إن الحقيقة التي لا يعلمها أغلبنا أن كثيرا مما نفعله بشكل يومي، كان حراما شرعا في الماضي، بل أن كثيرا مما نراه حراما اليوم، كان حلالا بيّنا في الماضي. فالحقيقة أن الجدل حول قيادة المرأة للسيارة، ما هو إلا تكرار لمواقف مشابهة في الماضي.

على سبيل المثال، هل تحب القهوة؟ أنا شخصيا لا أبدأ عملي اليومي إلا بعد شرب كوب من القهوة. ولكن هل تعلم أن القهوة كانت محرمة بفتاوى شيوخ في الحجاز ومصر لسنوات طويلة؟! نعم، ففي القرن السادس عشر انتقلت القهوة من اليمن إلى الحجاز. وقد لاحظ حاكم مكة الأمير المملوكي خاير بك بعض الناس الذين تجمعوا لشرب القهوة، وقد أزعجه ذلك. بعدها أمر بجمع فقهاء مكة، الذين أفتوا بتحريم شرب القهوة. وكانت حجة من قام بالتحريم أن "القهوة مفسدة للعقل والبدن". وقد استندوا على أن القهوة تغير المزاج، مثلما يغير الخمر المزاج، وعليه فهي محرمة حرمانية الخمر.

وصلت عدوى تحريم القهوة لاحقا إلى مصر، ووصل الأمر إلى حد أن رجال الأمن كانوا يداهمون المقاهي، وقد تسبب ذلك في أحداث شغب في القاهرة. بعدها حرمت اسطنبول القهوة، وتم تعقب شاربي القهوة باعتبارها حراما شرعا. ولم تنتهي هذه الأزمة إلا بعد تعيين مفتي جديد للدولة العثمانية، أفتى بإباحة شرب القهوة!

مثال آخر. هل تعرف من أين أتى اسم الحنفية (صنبور المياه)؟ أن لهذا الأمر أيضا قصة طريفة. ففي نهاية القرن التاسع عشر، بدأ تركيب صنابير المياه في القاهرة. وقد أضر ذلك بعمل السقايين، وهم الأشخاص الذين كانوا يبيعون المياه. فذهب هؤلاء واشتكوا لمشايخ الأزهر. فأفتى شيوخ الحنابلة والشافعية والمالكية بأن الوضوء بماء الصنبور غير جائز شرعا. إلا أن الأحناف (شيوخ المذهب الحنفي) أجازوا استخدام ماء الصنبور، بل وقالوا عليه مستحب في الوضوء أيضا. وبناء عليه فقد سمى المصريون الصنبور بالحنفية نسبة إليهم.

من يصدق أن أشياء عادية جدا مثل شرب القهوة واستخدام صنبور المياه قد تسببت في كل هذا الجدل الفقهي في الماضي؟! ولكن التاريخ يحكي لنا أنه في أحيان عديدة كان الجديد حراما شرعا، إلا أن يفرضه الواقع ومتطلباته. وكما نضحك نحن الآن على جدالات جدودنا الفقهية، سيضحك أحفادنا بعد خمسين أو مائة عام على جدالاتنا الحالية مثل الجدل حول حق المرأة في القيادة أو الميراث المتساوي.

وإذا تحدثنا عن تحريم ما كان حلالا بيّنا ـ لا تندهش يا عزيزي، فكل هذا يخضع لفهم رجال الدين النسبي ـ فقد أفتى الأزهريون لقرون عديدة بأن ختان الإناث ليس فقط حلالا ولكنه محبب أيضا، واختلفوا حول ما إذا كان فعله سنة أم لا؟ قال البعض: سنة. وقال آخرون: مكرمة، أي أمر محبب فعله، وليس سنة. ولكنهم اتفقوا على أنه حلال شرعا!

وقد كانت حجتهم أن عدم الختان قد يُوقع المرأة في المعصية، نظرا "لعدم قدرتها علي التحكم في شهوتها الجنسية إلا إذا تم الختان" وهو البتر الجزئي أو الكلي للعضو التناسلي الأنثوي. وبالرغم من خطأ هذا الكلام تماما من الناحية الطبية، وبالرغم من وجود أصوات عديدة مثل د. نوال السعداوي التي نادت منذ ستينيات القرن الماضي، بضرورة إلغاء هذه الممارسة نظرا لأضرارها البالغة علي الصحة النفسية والجنسية للمرأة، إلا أن معارضة رجال الدين لهذه الأصوات كانت عارمة. ولكن في عام 2006 تغير الأمر، فقد أصدر الأزهر فتوى تُحرم ختان الإناث، باعتباره يشكل ضررا بالغا للأنثى، طبقا للقاعدة التي تقول لا ضرر ولا ضرار! فهل غيرت السماء موقفها؟ أم أن تقدم الطب والعلم الحديث جعل من الصعب على رجال الدين إنكار الضرر البالغ الذي تحدثه هذه الممارسة؟ وبالتالي مرة أخرى فرض الواقع فهما جديدا للفقه والدين؟

ومما لا يخفى على أحد أن سوزان مبارك قرينة الرئيس المصري السابق حسني مبارك مارست ضغوطا سياسية من أجل إنهاء ممارسة ختان الإناث. وهذا ما يأخذنا للنقطة الثانية وهي أن فتاوى التحليل والتحريم تتأثر بوضوح بضغوط الحاكم، فلولا ضغط سوازن مبارك، ربما ما أفتى الأزهر بتحريم الختان. ولولا ضغوط الملك سلمان وابنه، لأصدر شيوخ السعودية عشرات الفتاوى ضد إباحة قيادة المرأة للسيارة.

والواقع أن القراءة المتمعنة للتاريخ تكشف بوضوح نسبية الحلال والحرام في أمور كثيرة. فمواقف رجال الدين وفتاواهم كانت ومازالت تتأثر بشدة بثقافاتهم الشخصية وثقافة زمانهم بل وبتوجيهات الحكام في ذلك الوقت. وعليه فإن دعوة كثير من المجدّدين والمفكرين لإعادة النظر في أحكام وفتاوى متعددة، وإعادة فهم وتفسير بعض النصوص بما يتناسب مع عصرنا، هي دعوة تستحق أن نأخذها بكل جدية واحترام!

ـــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.