الديموقراطية
الديموقراطية

بقلم عمار عبد الحميد/

ناقشنا في المقالة السابقة ظاهرة الإمبريالية التقليدية وكيف اختار الغرب التعامل معها في النصف الثاني من القرن العشرين، ونوهنا إلى تفرد الغرب إلى حد ما في تعامله الأكثر مرونة مع هذه الظاهرة، الأمر الذي كان له تأثيره الكبير على آليات صنع القرار في الدول الغربية وعلى طبيعة القرارات نفسها، وذلك في ذات الوقت الذي تصر فيه دول مثل روسيا والصين على تبني سياسات إمبريالية الطابع بغرض الحفاظ على إمبراطورياتها الموروثة، بصرف النظر عن إرادة شرائح واسعة من مواطنيها.

ولا تقتصر النزعة الإمبريالية على الدول العظمى فقط. فهي كما نوهنا نابعة من التركيب الجيني للدول والتجمعات البشرية عموماً. بل ما تزال هذه النزعة مسؤولة عن تشكيل السياسات الداخلية والخارجية للدول في معظم أنحاء العالم، وبوسعنا أن نرى تجليات هذا الوضع في منطقتنا، أي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في الكيفية التي تتعامل بها دول المنطقة مع بعضها البعض، والتي لا تراعي مفهوم السيادة في الكثير من الأحيان، وفي كيفية تعامل السلطات المركزية في بعض الدول مع مناطق وشرائح اجتماعية بعينها. ولهذا بوسعنا أن نتكلم عن مظلومية كوردية في كل من تركيا وإيران، ومظلومية أمازيغية في شمال إفريقيا، ومظلومية أهوازية وبالوشية في إيران، إلخ.

وما بوسعنا أن نتجاهل في هذا الصدد أيضاً أن المملكة العربية السعودية قامت على أساس نجاح تحالف مناطقي/قبائلي معين في فرض إرادته وسيطرته على أراضي قبائل أخرى. ويتوقع بعض الخبراء الدوليين أن تعود هذه القضية المناطقية/القبائلية وتفرض نفسها على الساحة من جديد في المستقبل القريب مؤدية إلى تفتت السعودية وانهيارها إلى خمس دول. 

لكن، وبصرف النظر عن مدى صوابية هذه التوقعات، يبقى الهدف من وراء إثارة قضية الإمبريالية هنا التنويه إلى أمرين أساسين، أولهما الطبيعة المعقدة لذلك الجدل الكبير حول ظاهرة الإمبريالية في الغرب الذي ما يزال محتدماً فيه منذ أكثر من قرنين، وما يزال له تأثيره الكبير في تشكيل السياسات الغربية. ولا ننسى في هذا الصدد نجاح المعسكر المناهض للحرب في المملكة المتحدة في إفشال القرار البرلماني بتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري عقب الهجمة الكيماوية في الغوطة في آب 2013، وهو الحدث الإشكالي الذي تم فيه الخلط ما بين مفهومي الإمبريالية والتدخل الإنساني، الأمر الذي يكشف لنا مدى تعقيد الجدل الدائر في الغرب في هذا الصدد.

لكن، وفيما يستمر الجدل حول الإمبريالية في دول الغرب، لا يخفى علينا ذلك التغييب المستمر لأي حوار جدي حول هذا الأمر في معظم الدول الأخرى، إلا في ما يتعلق بإدانة بل وتجريم التجربة الغربية. لا وجود هنا لأي بعد أو انعكاسات داخلية لهذا النقاش، أو لأية محاولة لإلقاء الأضواء على الإرث والتجربة التاريخية الوطنية. فالإمبريالية بالنسبة لهذه الدول جريمة تُرتكب بحقها فقط ولا يمكن لها أن تنبع عن ممارساتها وسياساتها، هذا على الرغم من إصرار هذه الدول على الاحتفاء بماضيها الإمبريالي "المجيد" ومحاولتها اليائسة الحفاظ على ما تبقى من "مكتسباته،" مادية كانت أو معنوية.

إنها لثنائية خطيرة بالفعل، لكنها إن دلت على شيء فعلى ضرورة الربط ما بين قضية بث الثقافة الديموقراطية من جهة، وقضية مناهضة الإمبريالية من جهة أخرى. فالإمبريالية على أرض الواقع، وبخلاف الخطاب الإعلامي والثقافي السائد عالمياً، تبقى أكثر ارتباطاً بسياسات الدول الاستبدادية منها بسياسات الدول الديموقراطية. والدليل أن الولايات المتحدة تخطط هي وحلفاؤها لمغادرة العراق منذ اللحظة الأولى لغزوه، في حين جاءت القوات الروسية إلى سوريا وفقاً لاتفاقيات تسمح لها بالبقاء لأجل غير مسمى، بل وبتوسيع قواعدها ونفوذها أيضاً. وتنطبق الملاحظة نفسها على الوجود الإيراني في سورية أيضاً.

علينا أن لا نسمح للأخطاء التي ترتكبها الدول الديموقراطية ولفشلها الحيني في لجم نزعتها الإمبريالية أو العدوانية، بصرف النظر عن الأسباب والمبررات، أن تعمينا عن ضرورة التحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول، وعن ضرورة تبني الثقافة الديموقراطية ككل، في مواجهاتنا المتكررة مع تلك الأنظمة والدول التي ما تزال سياساتها الداخلية والخارجية تنم عن نزعة إمبريالية متجذرة لم تخضع بعد لأي مراجعة فكرية أو أخلاقية.

وما لم يتماش العمل من أجل نشر الديموقراطية مع العمل على مناهضة الإمبريالية التقليدية سنجد أنفسنا نقع مراراً وتكراراً في مطب الخلط ما بين الإمبريالية وبين التدخل الإنساني أو ضرورات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو غيرها من القضايا التي تتطلب بطبيعتها تدخلاً إقليمياً أو دولياً ما، الأمر الذي يؤدي إلى خلق فراغ وتبني سياسات تصب في خاتم المطاف في مصلحة القوى الإمبريالية والاستبدادية في جميع أنحاء العالم. ولنا فيما حدث ويحدث في سورية خير مثال على ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.