علم قوس قزح رفع في حفل غنائي بالقاهرة
علم قوس قزح رفع في حفل غنائي بالقاهرة

بقلم نيرڤانا محمود/

كان خجولا وانطوائيا، وفوق ذلك، مهذبا وجديرا بالاحترام. لكن، كان ثمة أمر ما في شخصه مثير للاهتمام لسبب لم أستطع تحديده. وذات يوم انحلت العقدة عندما شهدتُ جدالا وقع بينه وبين اثنين من أقاربه. في البداية بدوا وكأنهم يتجادلون حول مشروع تجاري مشترك، لكن سرعان ما تحول الجدال إلى مساجلة حامية كُشفت خلالها الميول الجنسية لصاحبنا بطريقة بشعة: لقد كان مثليا. والمؤسف أن قريبيه، مدفوعين بحرارة الشجار، وجدا أن عليهما التعريض بمثليته الجنسية حين رفض إعطاءهما النقود التي طلباها.

لطالما عرف المثليون في مصر أن ميولهم الجنسية عبارة عن ورقة ضغط قوية وخطيرة يمكن استخدامها ضدهم، حتى وإن تمكنوا من إبقاء ميولهم الجنسية طي الكتمان. ومع ذلك، ففي التسعينيات فسر المثليون على نحو خاطئ تحولا في السلوك الاجتماعي تجاههم، حين وجدوا معاملة ودية في بعض البارات والمطاعم والمرافق العامة في المدينة. ولسوء الحظ، فإن شعورهم بالحرية آنذاك كان سطحيا، يعكس فترة في دورة الحياة السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي حيث تحولت فترات التسامح المعتدل (كما هو الحال في التسعينيات) إلى فترات أخرى من التعصب والقمع المفرط.

وتجسد ذلك باستحداث إجراءات استثنائية لقمع المثليين في مصر: اعتقالات تعسفية، فحوص شرجية إجبارية، مع احتمال فرض أحكام بالسجن. وتعرض ما لا يقل عن 33 شخصا للاعتقال منذ الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر، وهو اليوم الذي تلا مشاهدة مجموعة من الأشخاص يلوحون براية قوس قزح (راية المثليين)، في تعبير علني نادر عن دعم حقوق المثليين والمثليات، وثنائيي الجنس والمتحولين جنسيا، في هذا البلد الإسلامي المحافظ.

ظهرت الراية خلال عرض للفرقة الشعبية اللبنانية "مشروع ليلى" في حفل "ميوزك بارك" في القاهرة. إن المحافظين المصريين يسرهم الاستماع إلى أغاني الفرقة شرط تجنب ذكر كلمة "مثلي" غير المستحبة بأي شكل من الأشكال. وبالنسبة لهم، فإن عرض علم قوس قزح خط أحمر خطير لا ينبغي تجاوزه قطعا.

صحيح أن السلطات هي التي تقوم باعتقال مثليي الجنس وإذلالهم، لكن من المهم أيضا أن ندرك أن فئات متعددة من المجتمع المصري، وبصرف النظر عن انتماءاتها الطبقية والسياسية والدينية، تدعم تلك الانتهاكات للحقوق الفردية.

هذه الواقعة برمتها تلخص الخلل في المجتمع المصري والشرق الأوسط بأكمله:

أولا، عدم التمييز بين الجرائم والخطايا

والقضية هنا ليست الموقف الديني ضد المثلية الجنسية. فبالنسبة للكثير من المصريين، ليس واضحا الخط الفاصل بين ما هو خطيئة دينية وما ينبغي عده جريمة قانونية، خصوصا في ما يتعلق بمواضيع خلافية كالمثلية الجنسية. يحق للمصريين المتدينين النظر إلى العلاقات المثلية بين الرجال على أنها ذنب خطير، ولكن ليس لهم أن يتوقعوا أو يطالبوا أن تفرض الدولة عقوبة قانونية دنيوية على خطايا كهذه. فهذا ليس ولا ينبغي أن يكون من اختصاص حكومة مدنية. وليس للسلطات الحق في مساءلة المثليين الذين حضروا الحفل، عن ميولهم الجنسية، والسبب ببساطة هو أنهم لم يرتبكوا أي فعل جنسي في العلن.

العمل الوحيد المخالف للقانون خلال ذلك الحفل كان رفع علم المثليين من دون الحصول إلى إذن رسمي، وهي جريمة لا تستحق أكثر من الغرامة، وليس السجن والفحوص الشرجية. 

أما بالنسبة للمثلية، فإن الله وحده يستطيع أن يعاقب أو يغفر. الحكومات لا تمثل الخالق الجبار على الأرض، وليس لها حق التصرف على أنها تمثله.

ثانيا، الكتمان المسمم

أن تكون منفتحا في مجتمعنا من أعظم الخطايا. وعلى الجميع الامتثال والسير مع القطيع. وتعد الصراحة تحديا خطيرا، لأن الاعتقاد الأساسي هنا هو أن كل ما هو خارج ما يعتبر معيارا اجتماعيا لا يجوز التفوه به إلا بأقصى قدر من السرية.

للأسف أن العديد من المصريين، ومهما بلغوا من التعليم، يعدون هذه السرية ممارسة صحية للمجتمع. ولكنها على العكس، مسممة ومدمرة.

أمست مصر مجتمعا يتفشى فيه الظلم الاجتماعي وقمع الحقوق الفردية؛ بل هو مجتمع يعاني الكثير من مواطنيه جسديا وعقليا نتيجة لهذا الكتمان القهري. كثيرون يعدون المثلية الجنسية مرضا، لكن في الواقع، الاضطهاد هو ما يؤدي بالمثليين الى الانهيار العقلي.

الهستيريا حول المثلية الجنسية هي انعكاس طبيعي لهرم الأولويات المقلوب في مصر. ففي مجتمع يعاني من التضخم السكاني، والتعثر الاقتصادي والإرهاب، ينبغي أن يكون رفع علم المثليين في ذيل قائمة الأولويات. لا أحد يتوقع أن تسمح مصر بالمثلية الجنسية، ورغم ذلك فقد آن الأوان للتركيز على التحديات الحقيقية، والتوقف عن إطلاق الأحكام  على الآخرين، وترك القدير يحكم على سلوك البشر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

 

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.