"هناك حاجة ملحة في الغرب إلى الالتزام ببث الثقافة الديموقراطية في العالم"
"هناك حاجة ملحة في الغرب إلى الالتزام ببث الثقافة الديموقراطية في العالم" | Source: Courtesy Image

بقلم عمار عبد الحميد

بدى للكثير من الناس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة عقب ثورات أوروبا الشرقية المخملية في أواخر القرن المنصرم أن ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم أصبحت في طريقها للانقراض، وأن تأسيس نظام عالمي جديد قائم على الديموقراطية والليبرالية، على الأقل في ما يتعلق بمبادئه الاقتصادية، بات أمراً وشيكاً.

من هذا المنطلق، لا شك أن لعودة روسيا اليوم إلى الساحة السياسية العالمية مصحوبة بالإنجازات الدبلوماسية والعسكرية الأخيرة لإيران، وباستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في الصين وتمدد نفوذها عبر العالم، علاوة على نجاح الكثير من الأنظمة الاستبدادية التقليدية في البلدان النامية في الحفاظ على بقائها في وجه ثلة من التحديات الداخلية والخارجية وبعد أن بدت آيلة للزوال في تلك الفترة الواعدة، لا شك أن لهذا كله وقعاً سلبياً كبيراً عند كل من بنى آماله وتوقعاته على انتصار وشيك للنظام الديموقرطي الليبرالي.

لكن هذه العودة لقوى الاستبداد والرجعية ليست مفاجئة في الواقع، فهي لم تختف عن الساحة أساساً، وما كان يمكن للأسباب والعوامل التي أدت إلى ضعفها المرحلي أن تستمر إلى الأبد أو أن تمهّد الطريق إلى ذلك التغيير الجذري المرجو بالسرعة التي توقعها أو حلم بها الكثيرون. إذ لا تمثل هذه القوى ظاهرة طارئة في المجتمعات، بل هي في الواقع امتداد لإرث حضاري تراكمي قديم لا يمكن له أن يتغير أو يتطور إلا من خلال المرور بذات المراحل التي مرت بها ديموقراطيات الغرب، بما في ذلك من كر وفر، من مد وجذر، ومن صراعات وانتكاسات. 

قد يرغب البعض في حرق المراحل، عن طريق المواجهات الثورية مع النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية المستفيدة من استمرار الأطر التقليدية مثلاً، لكن تحديات تشكيل الوعي الجمعي وصياغته لا تسمح بذلك، والثورات الشعبية لا تؤتي أُكُلها إلا بعد أجيال من النضال والعمل المنظم، وتبقى نتائجها مرتهنة بقدرة النخب الثورية على الارتقاء إلى التحديات التنظيمية الخاصة بكل مرحلة وكل جيل. فالمعرفة وحدها لا تكفي هنا، وإطلاع المرء على تجارب التغيير في المجتمعات الأخرى وتبنيه لأفكار مختلفة عن تلك التي نشأ عليها لا يكفي بالضرورة لإحداث تغيير جذري في تصرفاته وسلوكياته. والقضية أصعب بكثير على المستوى الجمعي. ولنا في التناقض الصارخ ما بين أفكار الليبراليين في مجتمعاتنا الشرق أوسطية وتصرفاتهم الشخصية خير دليل على ذلك، كما سبق ونوهنا في مقال سابق

لقد مر أكثر من قرن على دخول الأفكار الحداثية إلى مجتمعاتنا وتغلغلها فيها، ومع ذلك، وفيما خلا بعض القشور والمظاهر، ما تزال النزعات التقليدية والإيديولوجيات السياسية المتمحورة حولها أكثر قدرة على تحديد الأنماط السلوكية السائدة في مجتمعاتنا من الأفكار والقيم الحداثية.

وفي الواقع، مازالت المجتمعات الغربية نفسها تعاني من هذا التناقض، على الرغم من أنها تمثل الحاضنة الأساسية للحداثة. وها نحن نرى كيف تعاني هذه المجتمعات اليوم من عودة صراعات الهوية إلى الساحة بما في ذلك حنين صريح ومعلن إلى تأكيد الخصوصية القومية والعرقية والدينية للغرب عموماً، وللمجتمعات المختلفة فيه، وإن أدى ذلك إلى تراجع في ما يتعلق بالالتزام بالقيم الديموقراطية والليبرالية.

فحتى في الغرب إذن، ما تزال المعركة من أجل الديموقراطية مستمرة، لأنها في جوهرها معركة ضد نزعات متأصلة في نفوسنا كبشر، ولا يمكن لمعركة كهذه أن تنتهي أبداً، كما لا يمكن لها أن تُخاض في الغرب وحده. فها نحن نرى كيف سمح التراجع الغربي على الساحة العالمية إلى عودة روسيا (وغيرها من القوى التقليدية) إليها، بأحلامها الإمبريالية القديمة إياها، بل، وكيف شجعها هذا التراجع على إعلان الحرب على الديموقراطيات الغربية من خلال تلاعبها الإلكتروني بالانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية.

من هنا تنبع حاجة الغرب المستمرة إلى بسط نفوذه خارج حدوده الجغرافية، فهو ما لم يخض المعركة خارج حدوده سيخوضها داخلها. لذا، وكما عادت روسيا والنظم الاستبدادية الرجعية إلى الساحة الدولية بعد غياب، لن تطول مرحلة التراجع الغربي التي نشهدها اليوم.

من ناحية أخرى، هناك حاجة ملحة في الغرب إلى الالتزام ببث الثقافة الديموقراطية في العالم، ومهما تلكأت الحكومات المعنية هنا فهي لن تتلكأ طويلاً، بل لا يمكن السماح لها بذلك، ومهما أخطأت في تناولها لملف الدمقرطة وحقوق الإنسان، وأخفقت في التوفيق ما بين مصالحها المادية وهذه القضايا، علينا أن لا نسمح لهذه الأخطاء أن تعمينا عن ضرورة إيجاد طرق للتحالف معها، كتيارات سياسية أو منظمات مدنية أو دول (راجع مقالي السابق: عن الإمبريالية والديموقراطية – 2)، إذ ما بوسعنا أن نطمح إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على أسس ديموقراطية ليبرالية عادلة ما لم تكن معظم القوى الفاعلة فيه مؤمنة بهذه المبادئ. كما لا يمكن لنا أن ننتصر في مواجهاتنا مع أنظمتنا الرجعية المختلفة دون هذا التحالف، لأن هذه الأنظمة ومهما تناحرت ما بينها تعرف متى تتحالف مع بعضها البعض في مواجهاتها المستمرة مع شعوبها.

ويمثل السعي وراء قيام هذا تحالف القوى الديموقراطية هذا وفي هذا الوقت بالذات التحدي الحقيقي الذي ينبغي على كل العاملين في مجال الديموقراطية والتنمية في مجتمعاتنا التصدي له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.