بقلم حسن منيمنة/
خلال أول ظهور لجون كيلي رئيس أركان البيت الأبيض، الخميس الماضي، للخلاصة الصحفية اليومية، جاءت في أحد أجوبته إشارة إلى "الخليج الفارسي"، غير أن كيلي استدرك على الفور مكرراً العبارة بصيغة "الخليج العربي". وفي اليوم التالي عند استعراض الرئيس ترامپ لسياسته الجديدة إزاء إيران، والقائمة على الشدة والصرامة، تكررت على لسانه عبارة "الخليج العربي". في هذا الاستعمال الجديد إذن قصد وتعمد. والتسمية المتبعة في الخطاب الرسمي في الولايات المتحدة، بل في عموم الثقافة الأميركية كانت إلى حين بروز الاستعمال الجديد "الخليج الفارسي". وحدها بعض الشركات الدولية العاملة في منطقة الخليج كانت قد استعملت تسمية "الخليج العربي" في مسايرة للصيغة المحلية، سواء كان ذلك عمداً واستصحاباً أو نقلاً وسهواً.
والأمر لمن لا تستهلكه المصطلحات عرضي وغير ذي أهمية. ولكن الدفاع عن تسمية "الخليج الفارسي" هو أولوية عالية بالنسبة لجمهور غفير من الإيرانيين، من مختلف التوجهات العقائدية والسياسية. فالمسألة هي مسألة اعتزاز قومي، والحملات على الشبكة العالمية ومحافل التواصل الاجتماعي متواصلة للاعتراض على أي "تجاوز" من أي طرف يستعمل للخليج تسمية غير "الخليج الفارسي"، أي "الخليج العربي". ففي التناطح القبلي الذي يتنكر بلباس العنفوان القومي والدقة التاريخية، تبدو التسمية وكأنها الملكية، والإساءة إليها هي اعتداء على الحقوق.
صيغة "الخليج العربي" هي بالفعل مستحدثة، ومن اقترحها هو رجل الأعمال والنائب اللبناني إميل البستاني، في خمسينيات القرن الماضي، في أوجّ الهبّة القومية العربية، انطلاقاً من أن سكان شواطئ الخليج، سواء في الدول العربية المتاخمة له أو في إيران نفسها هم من العرب أو الناطقين بالعربية. واعتماد التسمية تمّ تلقائياً في الثقافة العربية. وجاءت الترجمة الإنكليزية للعبارة أكثر دقة من الصيغة العربية، في إشارتها إلى الواقع الطبيعي، إذ النسبة فيها للجزيرة العربية، لا للغة ولا للقومية، فيما الصيغة العربية حمّالة أوجه.
ولكن حداثة عهد "الخليج العربي" لا يعني أن "الخليج الفارسي" هو الاسم التاريخي الدقيق، كما تريد المقولة الإيرانية المتكررة. فالواقع أن أشهر التسميات التي أطلقت على الخليج هي "خليج فارس" أو "بحر فارس"، وليس "الخليج الفارسي"، أي بالإضافة لا بالنسبة، في إشارة إلى أنه الطريق البحري الذي يصل إلى بلاد فارس. ومن اعتمد هذه التسمية هم تحديداً البحارة العرب، ثم مؤلفو مصنّفات البلدان (الجغرافيا) باللغة العربية (ثم الفارسية). فكما أن ما هو اليوم البحر الأبيض المتوسط يصل إلى بلاد الروم، فقد كانت تسميته بحر الروم، وكما أن ما هو اليوم المحيط الهندي يصل إلى الهند كانت تسميته بحر الهند. ولم يكن في هذه التسميات أي إقرار بسيادة على المياه الإقليمية أو اعتبار أو إنكار لملكية النطاق البحري، إذ هذه مفاهيم لم تكن من المتعارف عليه.
طبعاً، الخليج يحفل بالإشكالات الحقيقية. إيران تسيطر على جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، ولكن الإمارات العربية المتحدة تعتبرها من أراضيها. وبين التهويل والمزايدات، يتكرر التذكير من جهات إيرانية أن البحرين كانت تابعة لإيران. غير أن إشكال التسمية يلهب العواطف. وكان الإمام الخميني، قائد الثورة الإيرانية نفسه، قد سعى إلى صيغة توفيقية، فدعا إلى اعتماد تسمية "الخليج الإسلامي"، ولكن دعوته هذه لم تلقَ الترحيب.
ومن مفارقات الثورة الإسلامية في إيران أنها ضاعفت من الشعور والاعتزاز القوميين في المجتمع الإيراني، في حين أن الالتزام الإسلامي نظرياً متجاوز للقوميات. وبروز هذه المشاعر قد أدّى إلى حالة على قدر من الغرابة في تعاطي السياسيين الغربيين خاصة مع إيران. إذ لا يخلو أي خطاب يتطرق إلى الشأن الإيراني من الإشادة والإطراء بالحضارة الإيرانية العريقة. ومع كامل التقدير لهذه الحضارة وعراقتها، فإنها في العديد من تجلياتها مشتقة من الحضارة العراقية الأكثر عراقة، بل الأعرق والأعمق تأثيراً على مستوى الإنسانية جمعاء. ولكن الحديث عن العراق من جانب السياسيين الغربيين لا يستلزم ذكر عظمة الحضارة العراقية بين الرمق والآخر. بل لا يبدو أن معظم السياسيين في الغرب (ولا حتى في الشرق) على إطلاع على مدى عراقة العراق. فالإشادة هي أولاً إقرار ومهادنة للحس القومي الإيراني.
والرئيس ترامپ بدوره، في إعلانه عن سياسته الصارمة إزاء النظام الإيراني أسهب بالإشارة إلى عظمة الحضارة الإيرانية. وإذا كان المقصود من ذلك تنبيه الإيرانيين إلى أنه يكّن لهم الاحترام، فإن استعماله لصيغة "الخليج العربي" من شأنها أن تسقط كل النوايا الطيبة التي أراد ترامپ أن يتقدم بها للشعب الإيراني.
يفصل بين فرنسا وبريطانيا مضيق بحري، اسمه بالفرنسية مضيق كاليه (پا دو كاليه)، على اسم البلدة الفرنسية عند شاطئه الشرقي، وبالإنكليزية مضيق دوڤر (دوڤر سترايت)، على اسم البلدة البريطانية على شاطئه الغربي. ولا يذكر التاريخ أن الجماهير الفرنسية والإنكليزية قد تجيّشت وتعبّأت واحتدمت عند سماعها الاستعمال الذي لا ينسب المضيق لدولتها القومية. وقد يكون للخليج وأهله على الجانبين في هذا المضيق أسوة حسنة.
إذ لا ضرر في أن يرضى الجميع بأن يكون اسم الخليج بالعربية "الخليج العربي"، وبالفارسية "الخليج الفارسي"، وليكن ما كان في غيرهما. ولكنها ليست ثقافات مطمئنة، وفي معارك المصطلح تتحقق الانتصارات، وإن كانت افتراضية. وبغضّ النظر عن الاستفزاز السياسي في إيراد الرئيس ترامپ لصيغة "الخليج العربي"، فإن شيوع الاستعمال، لا السياسة ولا القرار الفوقي هو ما يحكم التسمية في نهاية المطاف. والواقع أن الخليج يسير من خلال الاستعمال إلى التسمية المجردة، أي "الخليج" بلام العهد. ومع الإذن من الأمير بشير الثاني الكبير (حاكم جبل لبنان في مطلع القرن التاسع عشر)، يمكن الاستعاضة بكلمة الخليج عن كلمة الأمير ليبنى على قول الشاعر:
فإن قلت "الخليج" ولم تسمِّ - فلا يحتاج سامعك السؤالا
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)