مسجد قبة الصخرة في القدس
مسجد قبة الصخرة في القدس

بقلم عمار عبد الحميد/

ماذا لو قبلت الدول العربية بقرار 181 للأمم المتحدة الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني، 1947، والذي دعا إلى قيام دولتين في فلسطين، واحدة عربية وأخرى يهودية، تجمعهما اتفاقيات مختلفة للتعاون الاقتصادي والتجاري؟ من الواضح اليوم أن قراراً من هذا النوع كان سيجنب العرب عموماً والفلسطينيين تحديداً نكبة 1948 وما تبعها من مواجهات وتشريد وحروب، مانحاً الفلسطينيين دولة عاصمتها القدس غير مقسمة. وإن كانت معرفتنا بطبيعة الأنظمة العربية تجعلنا نخلص إلى أنهم كانوا سيجدون قضايا ووسائل أخرى لجلب المصائب والويلات لشعوبهم، لا ينبغي على هذه القناعة أن تمنعنا من التفكر في الإيجابيات المحتملة التي كان يمكن أن تنشأ عن هذا السيناريو الافتراضي.

لا نهدف من وراء طرح هذا السيناريو إلى تحميل العرب وحدهم مسؤولية ما حدث في فلسطين، أو إنكار دور بريطانيا وقادة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل في ما واجهه ويواجهه الفلسطينيون اليوم من مآس. الهدف هو الاعتراف بما ارتكبته نخبنا السياسية والاجتماعية والفكرية من أخطاء في ذلك العصر، بصرف النظر عن النوايا، بغية التنبه إلى أهمية تكوين فهم أفضل للأرضية والوقائع السياسية، المحلية والإقليمية والعالمية، عند تعاملنا مع قضايانا المصيرية.

فالقرار العربي في 1947 وما بعدها شكّل في الحقيقة تمرداً على الشرعية الدولية دون تقدير لتوابع هذا الأمر، ودون القيام بأية محاولة جدية للتعامل معها ما خلا بعض الاستعدادات العسكرية المرتجلة. إن للمجتمع الدولي حساباته المعقدة ولن تكون قراراته صائبة في كل حين وشأن، لكن أسوأ خطأ يمكن لأي عضو فيه أن يقترفه هو أن يرفض أيا من قراراته أو يعترض عليها دون دراسة معمقة للتبعات المحتملة لهذا الأمر، ودون إعداد العدة المناسبة للتعامل معها. لكن هذا بالذات ما فعله العرب آنذاك، وربما اليوم أيضاً.

ولاشك في أن أية قراءة موضوعية للواقع الدولي في ذلك الوقت كانت ستكشف أنه ما كان يمكن للأمم المتحدة أن تقترح حلاً للصراع في فلسطين لا يشمل التقسيم وقيام دولة يهودية إلى جانب دولة عربية فلسطينية، خاصة بعد مآسي الحرب العالمية الثانية، ونظراً لطبيعة التوازنات الدولية التي نجمت عنها، وللواقع على الأرض في فلسطين ذاتها في تلك المرحلة. فمن الناحية العملية، كان رفض التقسيم سيأتي بمثابة إعلان حرب على التجمعات اليهودية في فلسطين، وهو الأمر الذي ما كان يمكن له أن يلقى تأييداً من أي من الأطراف الدولية الفاعلة في ذلك الوقت، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي. جاء قرار 181 إذن كمحاولة لاحتواء الأزمة وإنهاء حالة الصراع، بصرف النظر عن أية اعتبارات متعلقة ببداياتها التاريخية بما في ذلك ظروف الانتداب البريطاني ووعد بلفور ونشاطات الحركة الصهيونية الدبلوماسية. إذ لا ترتكز الإرادة الدولية على المراجع القانونية وكتب التاريخ بقدر ما تنبثق من المساعي الرامية لاحتواء الصراعات، أو إنهائها، أو تجنبها، ومن التنازلات الناجمة عنها.

من هذا المنطلق، كان على الأنظمة العربية، وبضمنهم ممثلو الحراك السياسي الفلسطيني في ذلك الوقت، أن تتعامل مع الموضوع بشكل أكثر واقعية وأن تدرك أن القبول بقيام دولة يهودية هو الثمن الذي ينبغي عليها أن تدفعه، وهي الدول التي قامت أساساً على أنقاض الإمبراطورية العثمانية والانتدابين الفرنسي والبريطاني، لكي تتمكن من تثبيت مشروعيتها الدولية وتعزيز مكانتها العالمية المكتسبة حديثاً.

إن هذه النشأة الحديثة للدول العربية المعاصرة ودور المجتمع الدولي من خلال أطرافه الفاعلة، خاصة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، في إسباغ الشرعية عليها، بل وفي التمهيد لها، تدلنا بشكل واضح على أن سيادة الدول المعاصرة وإسباغ الشرعية عليها لا تأتي كتحصيل حاصل، ولا تنبثق بشكل تلقائي عن القوانين والمواثيق الدولية المعاصرة، بما في ذلك حق الشعوب في تقرير مصائرها، بل تبقى خاضعة لعمليات دبلوماسية معقدة تشمل تقديم الكثير من التنازلات وأخذ التوازنات الإقليمية والدولية القائمة ومصالح الدول العظمى بعين الاعتبار. هذا على الأقل، ما نخلص إليه عندما نعاين الأمور من منطلق موضوعي وواقعي.

لكن تبقى الواقعية السياسية أمراً مرفوضاً في العرف السياسي العربي، وغالباً ما يخوّن أصحابها، على الصعيدين النخبوي والشعبي، في وقت تتكاثر فيه الصراعات في منطقتنا ودولنا وتتعاظم فيه قيمة الخسائر الناجمة عنها على كل الأصعدة. ولنا في استمرارية القضية الفلسطينية إلى يومنا هذا وفي الضعف المطرد للموقف الفلسطيني خير دليل على ذلك. فعوضاً عن التعامل مع دولة فلسطينية عاصمتها القدس، علينا اليوم أن نتعامل مع تجمعات سكانية مفككة لا تجمعها إلا مظلوميتها. لكن المظلومية لا تكفي لقيام الدول.

نعم، من الواضح أننا لن نتمكن من تغيير الماضي، لكن القدرة على الاعتراف بأننا بحاجة إلى التعامل بشكل أكثر واقعية مع قضايانا المصيرية في وقت يبدو فيه أن الإدارة الأمريكية الحالية تتوجه نحو تقديم رؤيتها الخاصة لحل الصراع قد يمهد الطريق لتبني مقاربات عربية وفلسطينية أفضل في هذا الشأن، مقاربات يمكن لها أن تساعدنا على التوصل إلى حل يسمح لنا بالتركيز على قضايا التنمية في مجتمعاتنا عوضاً عن الارتكاس إلى ذات العقلية والاستراتيجيات العدمية التي نقلتنا من نكبة إلى أخرى.

ــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.