ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يتحدث في أحد الفعاليات المتعلقة بالاستثمار الاقتصادي
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يتحدث في أحد الفعاليات المتعلقة بالاستثمار الاقتصادي

بقلم حسن منيمنه/

هي رؤية فذّة من دون شك، بناء مدينة مستقبلية الأسس والطابع والاهتمام، انطلاقاً من أقصى ما ابتدعته العقول الطليعية، من الذكاء الاصطناعي إلى إنترنت الأشياء، مدينة بنظم ذكية تتكيف مع التطور، بل تكيّفه وفقاً لتكامل مدروس بين البيئة والطاقة، والفن والتقنية والاتصالات. هي الانتقالة السعودية لا إلى القرن الواحد والعشرين وحسب، بل إلى المستقبل المفتوح، المستقبل الجديد، أي، عند مزج «نيو» (الجديد) اليونانية، بـ «ميم» المستقبل العربية، «نيوم».

على مساحة تبلغ ضعفي قطر أو لبنان، وتقارب مساحة إسرائيل، جارتها بخليج العقبة مع مصر والأردن، رؤية «نيوم» تقترب من إقامة دولة جديدة، على قواعد جديدة، وبقيم جديدة، تعتاش من اقتصاد مستقبلي جديد وتشكل ذخراً للسعودية وللمنطقة والعالم.

لا يمكن التشكيك البتة بالجسارة في هذا التصور. ولا بأن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهو صاحب الطرح والمشروع، يسعى من خلاله إلى الإنجاز البيّن والنجاح الباهر. وأمام التحديات، المعلوم منها والمجهول، يبدو جلياً بأن الإقدام على هذا الجهد يتطلب شجاعة وحزما وكفاءة قيادية مميزة. ولكنه يتطلب كذلك أموالاً طائلة. فالسؤال الأول هو هل أن السعودية، في زمن تراجع المداخيل، قادرة على المضي قدماً بمشروع من شأنه أن يستهلك قدراً كبيراً من صندوقها السيادي. والسؤال التالي، هل حسبت احتمالات النجاح بالشكل السليم لتبرير المجازفة بهذا القدر، بما لا يستنزف إمكانية تحقيق الأهداف التي تضمنتها «رؤية ٢٠٣٠» والطموحة بحدّ ذاتها، والتي تفترض أفضل الظروف الموائمة لمواكبة متطلبات المجتمع السعودي النامي؟ الجواب المباشر على هذين السؤالين يأتي طبعاً بالإيجاب. إلا أن التأكيدات الفوقية وحدها ليست كافية، لاسيما وأن التفاصيل والأرقام حول المشروع غير متوفرة. بل المؤكد هو المباشرة بالإنفاق، مع تصفيق وترحيب غير محدودين من المتعاقدين الذين يستفيدون للتوّ بغض النظر عن النتائج المستقبلية.

ثمة من يضع مشروع نيوم في سياق الرؤى المتتالية لاستنهاض منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما تلك التي عبّر عنها الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون پيريز بعد انطلاق عملية السلام في التسعينيات. والواقع أن إدراج نيوم في هذا السياق غالباً ما يراد به الطعن المبطّن، انطلاقاً من الريبة المستقرة في الثقافة العربية من كل ما يلامسه جانب إسرائيلي، على الرغم من أن الرؤية التي كان طرحها پيريز تسعى جهاراً للانتقال من منطق الحصيلة الصفرية، أي أن ربح طرف يلازمه حكماً خسارة طرف آخر، إلى منطق الربح المتحقق لكافة الأطراف معاً. وإن كان طرح پيريز لا يزال يستحق الاعتبار، فإن مشروع نيوم لا يملأ إطاره الواسع بل هو أقل استيعاباً أو أقرب أفقاً منه. ففي حين أن همّ پيريز امتد من المحيط إلى الخليج وما يتعداه، فإن انشغال نيوم هو أولاً بذاك اللسان البحري الذي يشكله خليج العقبة، والذي تلتف حوله أربع دول وحسب.

إلا أن الإشارة إلى إمكانية استفادة دول أخرى، وتسمية الكويت تحديداً، إذ يسعها مع اتضاح البنى التحتية في نيوم تصدير نفطها عبر طريق جديد يعفيها من الاعتماد على الخليج العربي ومن خطر العرقلة الإيرانية، أثار قراءات أخرى للهدف البعيد المدى لنيوم. فثمة من أسقط نيوم بالتالي في إطار الصراع السعودي الإيراني، ورأى في المسعى لإنعاش خليج العقبة جهداً لخطف دور الخليج العربي. غير أن في هذه الفرضية مبالغة تضعفها، فنيوم وخليج العقبة أقرب إلى أوروبا بالفعل، وبالإمكان بالتالي اختصار الوقت والكلفة عند تصدير النفط والغاز إليها، ولكنها أبعد من الخليج العربي بالنسبة إلى آسيا، ولا مبرر منطقياً لانتقال مركز الثقل الاقتصادي غرباً في حين أن النمو المتصاعد هو في الشرق، ولا يعقل أن يكون الاستثمار المستقبلي بجزء ضخم من الصندوق السيادي لغرض منافسة سياسية آنية عرضة للزوال.

فعند الامتناع عن الإسراف في القراءات السياسية لنيوم، يبرز عاملان في الدافع إلى المباشرة به، الأول اقتصادي والثاني ثقافي. فقد يكون الهدف من نيوم تزخيم الاقتصاد السعودي ككل. أي أن نيوم صيغة متقدمة ومتعاظمة لما قد شهدته السعودية في مراحل ماضية من مناطق تحفيز تجاري واقتصادي، في جدة والرياض وغيرهما. إلا أن التجارب الماضية لم تكن موفقة، وهذه المناطق لم تنجح باستقطاب الأعداد والأرصدة التي كانت متوقعة لها. فالسؤال الهام هو بالتالي حول ما يجعل نيوم مختلفا كي لا يكون وحسب تكراراً أخطر لتجارب سلبية سابقة.

وقد يكون الهدف من نيوم، كما كرر ولي العهد السعودي التأكيد خلال إطلاقه للمشروع، هو الإنجاز لا على مستوى السعودية وحسب، بل عالمياً، من خلال إقامة منطقة تعتمد على أسس فائقة التطور، فتغدو صحراء الشمال الغربي السعودي مدينة المستقبل. هي إذن استعادة لتجربة دبي تحديداً، والتي تمكنت خلال جيل واحد من الانطلاق الصاروخي من حالة صحراوية شحيحة السكن إلى المدينة الأولى عالمياً على أكثر من صعيد، من حيث التنوع والإبداع. فالتوقع هو أنه كما نجحت دبي، لا بد أن تنجح نيوم. غير أن هذا التوقع، أي استنساخ تجربة دبي ثم التفوق عليها، ينضوي على استشراقات رغبوية لا على توقعات واقعية.

دبي نجحت طبعاً بما انتهجته من سياسات واعتمدته من توجهات، ولكن نجاحها هو كذلك وليد ظروف تاريخية واقتصادية محلية وعالمية مواتية، لا هي أطلقتها ولا هي تحكمت بها، أي أن دبي قد أمسكت بالفرصة المتاحة وتسلقت إلى حيث هي اليوم. وليست دبي وحدها من أنجز هكذا إنجاز. نموذج آخر هو سنغافورة، والتي ابتدأت مستنقعات موبوءة في الستينيات لتصبح في طليعة الدول المتقدمة، والتي تجتهد منذ أعوام طويلة لتكون «المدينة الذكية» بما يحاكي طرح نيوم. غير أن سنغافورة ارتقت بخطوات دؤوبة قائمة على التدرج الإقدامي والذي يشترك فيه المجتمع السنغافوري في العلم والأداء. أما نيوم، فتريد أن تختصر المراحل وهي تستثمر استعداداً لفرصة تتمناها، من دون أن يلوح لها في الأفق ما يشير إلى اقترابها، وتعوّل على مساندة عالمية، في حين أن مجتمعها، أي السعودية، بحاجة إلى استثمارات استدراكية عميقة في التعليم والتنمية.

القليل النادر من التفاصيل بشأن نيوم يزخر بالمفاهيم والطروحات الفائقة التقدم تقنياً وتشكلياً، والعبارات المستحدثة التي يقتصر كنهها على النخبة المطلعة. وقد يكون هذا دليلا على عمق الاعتبار لدى المسؤولين عن نيوم، غير أنه من دون شك كذلك، نظراً إلى سرعة دورة الزعم والإثارة ثم التنفيس في مجالات الطروحات التقنية والتشكلية، دليل على نجاح التسويق لدى من يسوّق من المتعاقدين مع نيوم.

قد يرتقي نيوم فوق المخاوف السلبية وقد يحقق ما يجمع دبي وسنغافورة على البحر الأحمر ويتفوق عليهما. ولكنه، وللأسف هو الراجح، قد يصبح أوردوس أخرى. وأوردوس هي المدينة الصينية في منغوليا الداخلية، والتي شاءت لها الصين، الأكثر ثراء وتقدماً من السعودية بالطبع، أن تكون مدينة المستقبل، وسخت عليها بالأموال والمشاريع، وأقامت لها الصروح والمتاحف والتجارب المعمارية المتفوقة، ليتبين لها أن الحزم والإصرار والسخاء ليست وحدها ما يصنع المدن الجديدة. أوردوس اليوم إنجاز هائل وفاشل. عسى ألا يكون ذلك مصير نيوم.

ـــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.