محلل: ما يجري داخل السعودية تحضير لتعضيد التحالف الإقليمي
منطقة الشرق الأوسط

بقلم عمار عبد الحميد/

تتعامل الكثير من الشعوب اليوم وخاصة الشعوب الشرقأوسطية مع حقها في تشكيل دول سيادية مستقلة من منطلق قانوني صرف، متجاهلة التوابع السياسية والاقتصادية للأمر وتأثيره على التوازنات الإقليمية والدولية القائمة. لكن تأسيس الدول، خاصة في عالمنا المترابط هذا والذي ما فتئنا نتكلم فيه عن المجتمع الدولي والشرعية الدولية، يمثل قضية تفاوضية بالدرجة الأول، وتبقى سيادة الدول في عالمنا المعاصر نسبية، بصرف النظر عن تصريحات القادة السياسيين. على جميع شعوب المنطقة، سواء تلك التي نجحت في تأسيس دول لها أو تلك التي ما زالت تطمح إلى ذلك، أن تأخذ هذه الملاحظة بعين الاعتبار. وفي الواقع، يمكننا الجزم، بناء على مراجعة سريعة للتاريخ المعاصر، أن الأنظمة الحاكمة أكثر إدراكا لهذه الحقيقة ومضامينها من شعوبها، بل ومن النخب الفكرية الأكثر شهرة وتأثيرا على الصعيد الشعبي. لكن فساد هذه الأنظمة وطبيعتها الاستبدادية يمنعانها من التعبير عن هذا الإدراك إلا من خلال اللقاءات والصفقات السرية التي تستغلها الأنظمة للتأقلم مع الواقع ومتغيراته، في حين تصر على التعامل مع الأمور في العلن من منطلق إيديولوجي وعاطفي، وتصر على  تربية شعوبها على ثقافة رافضة للمرونة السياسية والواقعية.

لا وجود هنا لقناعة فكرية حقيقية بضرورة التعامل مع الواقع بمرونة من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، بل يهدف أسلوب الأنظمة في التعامل مع الأمور إلى تحقيق مصلحتها الخاصة حصرا وإن تطلب الأمر المساهمة في تجهيل الشعوب واستغلال عواطفها. لكن هناك حدودا لما يمكن إنجازه في السر، إذ لا يسمح هذا الوضع بإيجاد حلول حقيقية للقضايا المصيرية، بما فيها تحديات الحوكمة والتنمية وقضايا أمنية مثل القضية الفلسطينية وقضية مرتفعات الجولان، وغيرها، بل غالبا ما يؤدي إلى عرقلتها وبالتالي إلى استدامة حالة التخلف والصراع، وذلك حتى مجيء تلك اللحظة الحرجة التي تصل فيها الانعاكاسات السلبية لهذه الازدواجية في التعامل حدا يتجاوز قدرة الأنظمة على الحفاظ على الاستقرار القائم من خلال الأساليب القمعية ذاتها، فتندلع الثورات وتسود القلاقل وتأخذ الصراعات طابعا اجتماعيا معقدا، كما حدث في منطقتنا عبر السنين القليلة الماضية.

 

فإلى أين المضي؟

 

من الواضح أنه حتى في هذه اللحظة التي غابت فيها السكرة وحضرت الفكرة، تلميحا إلى المثل الشامي المعروف، لا يمكننا التعويل على معظم الأنظمة الحاكمة للمساهمة من تلقاء نفسها في تبني مقاربات أكثر واقعية وشفافية عند التعامل مع المتغيرات، لأن أولوياتها تبقى مختلفة تماما عن الأولويات الوطنية. ويضع هذا الواقع مسؤولية كبيرة على عاتق حركات المعارضة السياسية والنخب الفكرية ومنظمات المجتمع المدني للاستمرار في دفع الأنظمة دفعا نحو التغيير والمضي في الاتجاه الصحيح على الرغم من الصعوبات البالغة والتحديات العملية التي تواجهها. وهذا يحتم على هذه الحركات والمنظمات والنخب أن تجد طريقة للتخلص من تكلسها الخاص، ومن ارتكاسها المستمر إلى الأيديولوجيات العقيمة متبنية مقاربات أكثر مرونة في النشاط والعمل. فهل تنجح في التصدي لهذا التحدي الأساسي أم هل تقع في الفخ ذاته الذي دأبت الأنظمة على الوقوع فيه؟

لا تبشر تجربة السنين الأخيرة بخير في هذا الصدد، فللشعوبية إغراءاتها القوية خاصة في زمن المحن. وعلى الرغم من إدراك النخب الراغبة في التغيير في المنطقة أهمية تبني مقاربات أكثر واقعية، يبدو من الواضح أن رغبتها في الحفاظ على مكانتها الاجتماعية والسياسية وبعض المكتسبات القليلة التي حققتها مؤخرا، مادية كانت أم معنوية، تجعلها ترفض تقديم طروحات فكرية جديدة تتعارض مع ما ألفته الشعوب رغبة منها في تفادي أية ردة فعل سلبية من الشرائح المؤيدة لها. وهكذا، يبدو أن هذه النخب "المعارضة" للأنظمة والداعية للتغيير في خطابها السياسي، لم تتمكن بعد من الانسلاخ عن التركيبة الثقافية التي ينبغي معارضتها وتغييرها، الأمر الذي يسبغ طابعا خلبيا أو زائفا على عملها ونشاطاتها.

لا يمكن لمعارضة من هذا النوع أن تغير شيئا أو تنجح في ما فشلت فيه الأنظمة حتى لو توصلت إلى سدة الحكم. تماما كما لا يمكن لثقافة يتم من خلالها خيانة الواقعية السياسية باسم الواقعية السياسية من قبل معظم القوى الفاعلة فيها أن تفرز حراكا سياسيا واجتماعيا قادرا على قيادة انتقال سلس نحو الديموقراطية. إن خير ما يمكن التوصل إليه في هذه المرحلة هو الكشف على الملأ عن صراع الأضداد هذا الدائر في مجتمعاتنا وقلوبنا منذ عقود طويلة لكي نتحمل تبعاته في العلن، آملين أن يفرز هذا الأمر مع الوقت وعيا جديدة ونخبا فكرية وسياسية واجتماعية أكثر قدرة على تحمل أعباء القيادة.

ـــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.