مهاجرون أفارقة في ليبيا
مهاجرون أفارقة في ليبيا

بقلم منصور الحاج/

ضج العالم قبل أسابيع على وقع تقرير أعدته الصحافية البريطانية من أصل سوداني نعمة الباقر، وبثته قناة "سي أن أن" لمزاد علني في ليبيا يباع فيه شبان سود خرجوا من أوطانهم بحثا عن مستقبل أفضل فإذا بهم يقعون في قبضة عصابات استغلت التدهور الأمني في البلاد للمتاجرة بالبشر.

وبحسب التقارير واللقاءات التي أجريت مع عدد من الذين تم الإتجار بهم، فإن العصابات تبيعهم للمزارعين والرعاة الذين بدورهم يجبرونهم على العمل في المزارع والحقول والقيام بأعمال الرعي بدون تقاضي أي أجر على ذلك.

وشكك الليبيون، من جانبهم، في تقرير الـ"سي أن أن" وقللوا من شأن الحادثة بدعوى أنها حدث عرضي لا يمثل نظرة الليبيين تجاه الأفارقة السود مشيرين إلى أن الليبيين أنفسهم يتعرضون للاختطاف من قبل نفس العصابات التي تطلب فدية من أهاليهم مقابل إطلاق سراحهم. كما حمل الليبيون الأمم المتحدة والغرب المسؤولية عن الفوضى التي تغرق فيها البلاد منذ الإطاحة بالرئيس الراحل معمر القذافي في عام 2011.

وبغض النظر عن الوضع الأمني المتدهور في البلاد وتفشي حالات القتل والخطف والإرهاب، إلا أن ظاهرة استعباد البشر والمتاجرة بهم في ليبيا انحصرت فقط بالسود دون غيرهم من المهاجرين، الأمر الذي يعني أن هناك عاملا مهما تم إغفاله وهو التمييز العنصري ضد الأفارقة السود في ليبيا.

إن السؤال الجوهري الذي لم تتطرق له وسائل الإعلام العربية خاصة هو: لماذا اقتصر الاستعباد على السود فقط دون غيرهم؟ ولا تحتاج الإجابة على هذا السؤال كبير عناء، فقد ارتبطت العبودية تاريخيا بأصحاب البشرة السوداء، فالليبيون كغيرهم من الشعوب العربية يصفون أصحاب البشرة السوداء بالعبيد أو الخدم أو غيرها من التسميات التي يقصد منها الحط من شأن الإنسان الأسود.

وقضية العنصرية ضد السود في العالم العربي من القضايا الحساسة والمسكوت عنها فلا تناقش في الإعلام إلا نادرا على الرغم من أهميتها. والسبب في اعتقادي وراء التحسس من تناول قضية العنصرية ضد السود يعود إلى تجذر هذا الواقع من مئات السنين بحيث أضحى من الأمور المقبولة اجتماعيا ليس فقط من قبل السلطات والمجتمع بل حتى من السود أنفسهم الذين اعتادوا التعرض لمواقف عنصرية وفشلت محاولاتهم الخجولة في لفت انتباه السلطات لاتخاذ تدابير وإجراءات أو سن قوانين للحد من العنصرية تجاههم.

وفي الوقت الذي أدانت فيه دول أوروبية وأفريقية ومنظمات دولية حادثة بيع الشبان الأفارقة بأشد العبارات وطالبت بفتح تحقيق وإدراج القضية في جدول أعمال القمة الأفريقية القادمة وفي الوقت الذي تظاهر فيه آلاف الأشخاص في عدة مدن أوروبية وتفاعل مع الحادثة مشاهير كرة القدم كالفرنسي بول بوغبا والكاميروني صامويل ايتو والعاجي دروجبا، لم يحظ الموضوع باهتمام المسؤولين العرب ولا الشارع العربي.

وليت الأمر توقف عند تجاهل القضية من قبل المسؤوليين العرب بل وصل إلى حد التقليل من أهمية استعباد البشر وتحميل الغرب المسؤولية عن ما حدث في ليبيا كما جاء في تصريح للرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز. المثير للدهشة في تصريح ولد عبد العزيز الذي يرى في مساعدة الغرب للشعب الليبي في إسقاط نظام القذافي وما تلا ذلك من حالة فوضى هو ما أدى إلى أو ساهم في تنامي ظاهرة الإتجار بالبشر، هو أن نفس الظاهرة منتشرة في بلاده التي لم يتدخل الغرب لإسقاط النظام فيها.

وبحسب موقع "موريتانيا المعلومة" فقد استنكر ولد عبد العزيز مطالب منظمات حقوقية موريتانية بإنهاء الرق في البلاد وشكك في دوافع نشطاء حقوقيين مناهضين للاستعباد، قائلا: "لماذا يكثر الحديث عن هذه المسألة إلى هذا الحد؟ لماذا الذين يطرحونها اليوم لم يفعلوا ذلك منذ 15 سنة؟ لأنهم لم يعودوا في السلطة، استاؤوا وصاروا يثيرون مسألة العبودية."

شخصيا، أتعرض باستمرار لإساءات عنصرية في وسائل التواصل الاجتماعي خاصة عندما أتطرق لقضايا وأحداث تتعلق بالمملكة العربية السعودية وقد لاحظت في مرات عديدة أن العنصريين يتمنون لو أن الملك فيصل لم يلغ العمل بنظام الرق.

مثل هذه التصريحات تؤكد أن فكرة استعباد السود والنظر إليهم بدونية أمور لم توجدها حالة التدهور الأمني في ليبيا، وأن المجتمعات العربية بحاجة إلى الاعتراف بالمشكلة ومن ثم معالجتها من خلال دعم وتعزيز وجود السود في مختلف المجالات وتشجيعهم واستهجان الألفاظ والعبارات والتصرفات العنصرية حتى يتم القضاء على العنصرية أو على الأقل حتى يصل المجتمع إلى مرحلة يصبح فيها العنصريون أقلية منبوذة.

إن الواقع المؤسف هو أن المجتمعات العربية تعامل السود بعنصرية وتنظر إليهم بدونية حتى في الدول التي تعتبر أكثر انفتاحا كلبنان مثلا. في برنامج "أحمر بالخط العريض" الذي تبثه قناة "أل بي سي" ويقدمه الإعلامي مالك مكتبي، تحدثت اللبنانية عائشة المتزوجة بشاب من دولة غانا عن المضايقات التي يتعرضان لها باستمرار ونظرات الازدراء والتعليقات الساخرة عليهما أينما ذهبوا.

قالت عائشة في معرض وصفها لحال العنصريين الذين ينتقدون زواجها من محمد الغاني: "إذا بتفكر فيها بطريقة إيجابية ستعرف أنهم عاجزون عن القيام بما قمنا به. أنا أشعر بأن ما قمت به أمر طبيعي جدا بل وأقل من طبيعي ... ما قمت به ليس عملا خاطئا. إن من العيب أن تكونوا عنصريين".

صدقت عائشة، فالعنصريون يعوضون إحساسهم بالنقص باحتقار الآخرين والتقليل من شأنهم. وصدق مكتبي أيضا، فإن عرض مثل هذه الحالات وتسليط الضوء على المضايقات التي يتعرض لها السود سوف يساهم في زيادة الوعي لدى أفراد المجتمع الأمر وبالتالي سيؤدي إلى انحسار ظاهرة العنصرية ضد السود.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.