طلاب في مدرسة
طلاب في مدرسة

بقلم رياض عصمت/

بالأمس القريب، قرأت عن تغريم سيدة سورية في النمسا غرامة بسبب ضربها المبرح لطفلها البالغ من العمر سنتين فقط، وهي غرامة مستحقة تجاه أمٍ لم يعرف قلبها الرحمة تجاه طفلٍ بريء. للأسف، كان الضرب في يفاعتي مسموحاً به في المدارس، وكان المعلمون والمعلمات يتفننون في وسائل الضرب المتراوحة بين الصفع، فرك الأذن، اللطم بحزام أو بخشبة عريضة، رفع الفلقة، أو ضرب راحة اليد بمسطرتين تحدثان قرقعة شديدة تثير الرعب في النفوس أكثر من الألم. أتذكر أستاذاً كان يستخدم رياضة الجودو الشائعة في ذلك الزمان لإرهاب التلاميذ وتأديبهم بالإطاحة بهم في الهواء بحركات بارعة. بالطبع، لم يكن الضرب دون سبب، كما هو الحال لدى استجواب فروع المخابرات أحياناً كثيرة، فالتلاميذ كانوا مشاغبين بشكل يفقد المعلم أعصابه. لكن السماح باستخدام الضرب كان خطأ تربوياً ما لبث أن تنبه إليه العاملون في قيادة سلك التعليم، فمنع منعاً باتاً من المدارس تحت طائلة المسؤولية والعقاب. أجد شخصياً سبباً منطقياً آخر لمنع الضرب غير الرحمة، ألا وهو أن استخدام القوة من الشخص الأقوى لإرهاب وإخافة الشخص الأضعف لم يكن يوماً من الأيام حلاً مجدياً على الإطلاق، بل يزيد الأضعف عناداً وصلابة تجاه القوى، ويحفز عنصري الكبرياء والتحدي، تماماً كما حدث مع جماهير غفيرة خلال "الربيع العربي".

كانت معظم حالات الضرب التي عاصرتها عبارة عن عقاب جماعي حين لا يستطيع المعلم أو المعلمة تحديد المسؤولية عن فعل ما، فيعاقب الصف كله، أو فلنقل جميع المشتبه بهم من أفراده. أذكر في إحدى المرات أن المعلم دخل الصف قبل الأوان، فقرأ عبارة لاذعة تنال مدير المدرسة خطت على السبورة. جمع المعلم الطلاب المتواجدين في القاعة آنذاك، حرم الباقين من دخل الصف، ومنع عن المحجوزين الخروج إلى استراحة الفرصة بين الدروس، وضغط عليهم بالتهديد والوعيد كي يعترفوا من الفاعل، وإلا حلَّ بهم جميعاً العقاب. لم ينبس أحدنا بكلمة، وتحملنا جميعاً الضرب صاغرين ومكابرين تجاه الألم. لم ييأس المعلم، فعمد إلى إدخال الجميع، واحداً تلو الآخر إلى غرفته، وضربه بشدة كي يشي بزميله.  لم يفلح ذلك أيضاً في التوصل إلى أية نتيجة. كان فعل الوشاية إهانة لشرف الزمالة، بل خيانة لم يقدم أي منا عليها. هكذا، بالرغم من خلافات بعضنا ومشاحناته مع الفاعل، لم يذعن أحدنا ويقدم على الإفصاح عن باسمه، لأن ذلك سيعرضه هو نفسه إلى الاحتقار والنبذ من رفاقه لزمن طويل.

الحق يقال، لم يكن ضرب المعلم في المدرسة قاسياً إلا في حالات نادرة، وكان بعيداً جداً عما نقرأ عنه من تعذيب أجهزة الاستخبارات للمواطنين. كان القصد من عقاب المدرسة رمزياً. فما أن يصرخ الولد في مبالغة تمثيلية وهو يرفع التوبة، حتى يتوقف الضرب، ويعتبر المعلم أن العقوبة أدت غرضها، وأن التلميذ لن يكرر الذنب.  في أحيان أخرى، كانت ردة فعل بعض التلاميذ  تتسم بتحدٍ فاقع لسلطة المعلم وزعزعة لهيبته. بالتالي، كان المعلم يفقد سيطرته على أعصابه تماماً، ويقسو بالضرب المبرح، ثم يحيل التلميذ المتمرد إلى الناظر لينال قسطاً مضاعفاً من العقاب، فإن عاند وازداد تحدياً أحيل إلى مدير المدرسة، الذي كان لدخول مكتبه رهبة توازي دخول مكتب رئيس وزراء. عادةً، لم يكن المدير يلجأ إلى الضرب، وتلك حكمة من المديرين الذين أدركوا أن ذلك الأسلوب غير ذي جدوى، خاصةً بعد أن يكون قد استنفذ أغراضه من قبل الأدنى منهم مرتبة ومكانة. لذا، كان التهديد الأشد رهبة هو الطلب من التلميذ استدعاء ولي أمره، وهو بالنسبة لنا في سن الطفولة يشبه أثره  الخوف من استدعاء الولايات المتحدة أو روسيا أو بريطانيا أو فرنسا أو الصين لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن.

كان لنا زميل عنيد وشديد التكبر والغرور في المرحلة الابتدائية، بحيث كان ينال من الضرب أكثر منا مجتمعين.  لم يخل شهر دون مشكلة بينه وبين المعلم لسبب أو لآخر، كثيراً ما انتهت بإحالته إلى الناظر ليتعرض لحفلة ضرب أخرى، ثم إلى المدير الذي كان يطلب استدعاء ولي أمره. لكن ولي الأمر كان لا يحضر في الموعد المحدد، فتتكرر المطالبة، ومن ثم التسويف، حتى ينتهي الأمر بنسيان الأمر بعد أيام، وتهدأ العاصفة إلى أن يعود ذلك التلميذ ليرتكب عامداً متعمداً غلطة أخرى تستوجب العقاب. لم ينل أي منا من الضرب أكثر مما ناله ذلك الزميل ذي الدماغ الناشف. والسبب أننا جميعاً كنا نتباكى مع أول ضربة ونصيح ساحبين أيدينا ونحن نتصنع الألم، بحيث لا تزيد الضربات عن ثلاث أو أربع في أقصى الأحوال، سرعان ما نتعهد بعدها تائبين بعدم تكرار الخطأ. صاحبنا ذاك وحده ظلَّ مصراً على المكابرة والعناد، وكلما هوى المعلم بضربة على راحة كفه، حدق فيه بتحدٍ، وقال: "ما انوجعت"  بالتالي، كان المعلم يكيل ضربة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة، بصورة متلاحقة إلى ما لا نهاية حتى تحمر كف صاحبنا كثيراً ويكاد الدم ينفر منها، لكن عيني التلميذ الدامعتين تصران رغم الألم على أن ترمقا المعلم بمكابرة وتحدٍ وهو يكرر قائلاً: "ما انوجعت"  كان المعلم بعدها يضطر إلى التوقف عن الضرب منهكاً لاهث الأنفاس وقد أدرك ذراعه الوهن، ويحيل التلميذ المتمرد يائساً إلى الناظر ليتكرر فصل جديد من تلك المهزلة التربوية. مع مرور الوقت، كان الجميع ينسون ما هو الذنب الذي ارتكبه التلميذ، ولماذا فرض عليه ذلك العقاب القاسي. بالتالي، يصبح الضرب للضرب، كما الفن للفن، دون غاية أو دافع، وربما ينال لذة سادية من قبل المعلم. إذا طبقنا مبدأ "ما انوجعت" على السياسة في زماننا الراهن، سنرى العجب العجاب.

ـــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.