تمثال الجنرال روبرت لي
تمثال الجنرال روبرت لي

بقلم جمال أبو الحسن/

أثار الكاتب والباحث المصري يوسف زيدان عاصفة كبرى عندما تحدث مؤخرا عن "صلاح الدين" بوصفه مجرم حرب. هو وصفه بأنه "واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني"، متحججا بأنه ارتكب مذابح –سماها جريمة ضد الإنسانية- في حق الفاطميين حتى أنه "قطع نسلهم"، كما أحرق مكتبة كبرى –ربما كانت الأكبر في هذا الزمان بعد مكتبة بغداد- بدعوى محاربة الفكر الشيعي.

ليس بعيدا عن هذا الجدل الأزمة التي شهدتها الولايات المتحدة، وبالتحديد مدينة "شارلوتسفيل"، في أغسطس 2017. بطل الأزمة كان تمثالا لـ "روبرت لي"، قائد الكونفدرالية إبان الحرب الأهلية الأميركية. بعض النشطاء دفعوا مجلس المدينة للتخطيط لإزالة التمثال باعتباره يحتفي برمز طالما دافع عن العبودية والتفرقة ضد السود. نشطاء اليمين، من جانبهم، تدفقوا إلى المدينة معترضين على إزالة التمثال. بالنسبة لهم، هو يجسد رمزا من رموز البطولة الوطنية ويعد قطعة من تاريخ أميركا. اندلعت مظاهرات وتطورت إلى أحداث عنف أسفرت عن مقتل شخص.

في بريطانيا، ثمة دعاوى مماثلة تطالب بإزالة تمثال "نيلسون" الشهير في ميدان الطرف الأغر، باعتبار أن القائد العسكري الشهير كان من مؤيدي العبودية!

هذه الوقائع يجمعها خيط واحد، وتحوم حولها أسئلة متشابهة: كيف ننظر إلى الأحداث التاريخية؟ هل نقيمها بمعايير زماننا نحن أم بواقع المعيار الأخلاقي السائد في زمان وقوعها؟ كيف ننظر إلى أبطال التاريخ؛ أمن زاوية أخلاق عصرنا أم عصرهم؟

إنها قضية كبيرة تستدعي التفكير. الإجابة ليست سهلة أو حاسمة كما يبدو للوهلة الأولى. لو أنك قلت إن المعيار التاريخي واحد وثابت، وأن الجريمة ضد الإنسانية تظل جريمة ضد الإنسانية، مهما تقادم بها العهد، فإنك بذلك تحاكم شخصيات تاريخية وفقا لمعيار أخلاقي ربما لم يسمعوا به. مثل ذلك، أن تقول إن يوليوس قيصر ارتكب جريمة ضد الإنسانية في حق شعب الغال (قتل منهم ما يقرب من مليون نفس!)، أو أن تدفع بأن أهرامات الجيزة تعد تجسيدا لانتهاك حقوق الإنسان لأنها شيدت –على الأقل جزئيا- بالسخرة. في هذا ظلم كبير للتاريخ بإسقاط الحاضر، بأخلاقياته ومعاييره، عليه.

من جانب آخر، ليس من السهل أن نتذرع بـ"نسبية الأخلاق" لكي نرفع عن الماضي أي حكم أخلاقي أو قيمي. النتيجة الحتمية لذلك أن تصبح النازية –مثلا- مجرد "ابنة لعصرها". أن تصير الهولوكوست مجرد منتج لزمانها. أن تُبرأ ساحة كل من شاركوا فيها باعتبار أنهم كانوا يمارسون "الأخلاق النازية". كانوا –بمعنى من المعاني- أبناء لزمانهم. معنى ذلك أيضا أن نغض الطرف عن ممارسات الاستعمار وتجارة العبيد، باعتبار أنها لم تكن سوى صدى للتفكير والروح السائدة في عصرها.

التاريخ المجرد من الحكم القيمي ينطوي على معان خطيرة. فكرة "نسبية الأخلاق"، في معانيها القصوى، قد تؤول إلى إسقاط الأخلاق ذاتها كمعيار للحكم على أي حدث أو شخص، في الحاضر كما في الماضي. هي تفتح الباب لتكرار فظاعات الماضي في المستقبل.

إنها معضلة كبيرة.. محاكمة الماضي بمعايير الحاضر تظلم الماضي. إسقاط الأخلاق من الحكم على الماضي يظلم المستقبل!

مجلة World Histories الصادرة عن هيئة الإذاعة البريطانية أفردت ملفا في عدد شهر ديسمبر الجاري لتناول هذه المعضلة تحت عنوان: " السؤال الكبير: هل يتعين أن نحاكم الشخصيات التاريخية بالمعايير الأخلاقية لعصرنا؟". المجلة استطلعت رأي عدد من المؤرخين، بين مؤيد ومعارض.

أنقل هنا ما كتبه البروفسور Andrew Roberts ، الأستاذ في King’s college: " برغم أنه يجافي المنطق على طول الخط، كما يجافي التاريخ ومعايير العدالة الطبيعية، أن نحكم على أهل الزمان الماضي بالمعايير الأخلاقية لزماننا، فإن من الصعب جدا ألا نفعل ذلك. إذا حكمنا عليهم بالأخلاقيات السائدة في عصرهم فإن ذلك لا يخبرنا بالكثير. وإذا لم نصدر أي أحكام أخلاقية بشأنهم على الإطلاق، فإن ذلك يعني تبرئة ساحة أمثال هتلر وستالين بدعاوى مشوشة من النسبية الأخلاقية".

يضيف البروفسير Roberts: "إن سبيل الاقتراب من حقل الألغام هذا لا يتمثل في الادعاء بأن أخلاقياتنا اليوم تتفوق على أخلاقيات أهل الزمان الماضي، ذلك أننا سنحاكَم بلا شك من قبل من سيخلفوننا. هؤلاء سيظنون أن سماحنا للأطفال بأن يحملوا الهواتف الذكية، أو رفضنا للحمامات المشتركة بين الجنسين، أو استرضاءنا لكيم جون أون (رئيس كوريا الشمالية) وهو على وشك إحراق شيكاغو.. سيظنون أن هذه كلها تعد من الأمور المقيتة". يشير البروفسير إلى أنه من الصعب على قائد مثل نيلسون أن يتنبأ بأن أناساً سوف يطالبون بإزالة تمثاله بعد قرنين على معركة الطرف الأغر لتأييده لمؤسسة العبودية التي كانت شرعية تماماً في زمنه!

الملف يتضمن آراء مختلفة ومقاربات شتى في تناول هذه المعضلة المحيرة. لا أريد أن أصادر حق القارئ الكريم في تكوين رؤيته الخاصة، غير أنني فقط أشير إلى أن ثمة منطقة وسطى تسمح لنا بألا نسقط معاييرنا الأخلاقية (التي تعبر في النهاية عن تقدم الجنس البشري وارتقائه)، مع الاحتفاظ بهامش من السماح يتيح لنا رؤية الشخصيات التاريخية في سياقها.

بكلام مختصر: فظائع المغول تظل مدانة بأي معيار، وقد أدانها أهل زمانها. جرائم ستالين لا يمكن التغاضي عنها بواقع أنها كانت ابنة لعصرها. مذابح التاريخ الكبرى تظل مذابح. مؤسسة العبودية –منذ القرن السادس عشر- نقطة سوداء في التاريخ الإنساني.

نحن نطل على الماضي بعيون الحاضر، ولأجل المستقبل. لا مهرب من هذه الحقيقة مهما حاولنا!

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.