بقلم منصور الحاج/
لم يدر بخلد جدتي خديجة محمد أحمد المعروفة بـ"سِمبِل" أن يتسبب شقيقها الأصغر "إلياس" الذي تولت أمر تربيته منذ أن كان رضيعا بعد وفاة والدتهما، في تركها البلاد التي ولدت ونشأت فيها، إلى الأبد. ولم تكن تعلم وهي الشقيقة الكبرى لتسع أبناء أنها ستترك يوما وطنها وبعض أبنائها وكل ذكرياتها، وتبدأ رحلة نحو المجهول لن تعود بعدها أبدا ولا حتى كزائرة. بالنسبة لي، تمثل قصة جدتي الأمية التي هاجرت برا من تشاد إلى مكة ملحمة في العصامية والتحدي والشجاعة ومثلا يمكن لشابات هذا الزمان الاقتداء به.
هاجرت أسرة سِمبِل من مسقط رأسها في قرية "أب قدام" في شرق تشاد إلى العاصمة أنجمينا التي كانت تسمى حينها بـ"فورت لامي"، وهناك تزوجت مرتين وأنجبت أربع بنات وولدين. وكانت سِمبِل امرأة مثابرة بكل المقاييس تمكنت من خلال عملها كقابلة وأمتهانها مهنة "تضفير" الشعر الأقرب إلى عمل الكوافيرة في عصرنا الحالي، من تأسيس أسرة عاشت وضعا مستقرا في منزل كبير بحي "مرجان دفق" العريق.
كانت حياتها تسير على ما يرام ولم يكن ينغص صفوها أي منغص، فالوضع المادي المستقر جعل مسألة توفير الغذاء والملبس والدواء أمورا سهلة وكفل لها حياة كريمة في بلدها ووسط أبنائها وأقاربها، ولولا ما حدث بينها وبين شقيقها إلياس، لما اضطرت سِمبِل إلى ترك كل ذلك وراء ظهرها والهجرة غير عابئة بما ستلاقي من مشاق في الطريق الوعر ولا مبالية بما ينتظرها من آلام الغربة أو حنين لما ستخلفه من ذكريات أربعة عقود عاشتها بين مدينتي أبشّه وأنجمينا.
بدأت قصة هجرة سِمبِل عندما طلبت الطلاق من زوجها الذي رفض وحاول الإستعانة بأسرتها لإجبارها على تغيير رأيها. حاولت أسرة سِمبِل ثنيها عن طلبها راجينها أن تمنح زوجها فرصة أخرى لكنها كانت متمسكة برأيها. وفي خضم تلك المحاولات والأخذ والرد اعتدى عليها شقيقها الأصغر بالضرب وأعادها مكرهة إلى منزل زوجها.
لا أعرف بالتحديد كم من الوقت احتاجت سِمبِل للتفكير في خطة الهرب. أيقظت سِمبِل بناتها الثلاث في ليلة من الليالي وغادرت نحو المجهول. كانت حينما تشق القرى والمدن من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق لا تفصح عن وجهتها النهائية التي لا أعرف إن كانت في ذلك الوقت قد حددتها بعد. كان ردها دائما حين تسأل عن مقصدها اسم القرية أو المدينة التي تلي مكان تواجدها إلى أن عبرت الحدود ووصلت إلى السودان.
في السودان، لم تبق سِمبِل هناك طويلا وواصلت رحلتها إلى الحجاز ولكن بعد أن زفت ابنتها الكبرى إلى زوجها لتبدأ فاطمة الكبرى رحلة مد نسل سِمبِل هناك. نسل لعب دورا محوريا في أن تحقق سِمبِل أمنيتها في أن تموت وتدفن قرب بيت الله. أمنية ما كان لها أن تتحقق لولا أنها تركت فاطمة الكبرى في السودان التي ستعود إليها بعد قرابة 40 سنة وهي عجوز في الثمانين حيث قررت السلطات السعودية إبعادها من البلاد لأنها كانت تقيم بصورة غير شرعية.
وصلت سِمبِل إلى مكة في مطلع السبعينيات وحينها لم تكن البلاد قد عرفت حياة الرفاه ولا دعة العيش واستقر بها المقام في منزل صغير بالقرب من شارع الأمير منصور بحي الهنداوية القريب من المسجد الحرام. عملت كبائعة للحلويات ومشروب الكركديه أمام مدرسة للبنات كانت قريبة من منزلها. حرصت سِمبِل على أن تحج ماشية على قدميها في كل عام فكانت تسير من مكة إلى منى ومن عرفات إلى مزدلفة ثم تعود ولم تتوقف عن تلك العادة إلا بعد أن هرمت ولم تعد تقوى على السير لمسافات طويلة.
زوجت سِمبِل ابنتها فاطمة الصغرى لرجل سرعان ما أجبرته على تطليقها بعد أن اعتدى على ابنتها بالضرب ولم تشفع للرجل توسلاته إليها في أن تعيد له زوجته التي أنجبت له ابنا اتفقا على تسميته نادر. تزوجت فاطمة مرة أخرى وبعد بسنوات تزوجت الأبنة الصغرى مريم وحين أنجبت أصرت جدتي أن يسمى منصور تيمنا باسم الشارع الذي استقرت فيه بعد وصولها إلى مكة.
أصرت سِمبِل على العيش وحيدة في مكة بعد انتقال ابنتيها للعيش في مدينة جدة التي لم تنتقل للعيش فيها إلا بعد أن احترق منزلها بالكامل ولم تترك النار لها شيئا بما في ذلك ما ادخرته من أموال طوال السنوات العشر التي عاشتها فيه والنقود المعدنية التي جمعتها في صناديق فقد أحرقتها النار وأذابت كل شيء.
انتقلت جدتي القصيرة السوداء التي لم تكن تغطي وجهها الدائري الصغير الذي تزينه شفتان عليهما وخزات الشوك "أو الإبر" وهو تقليد تمارسه بعض القبائل الأفريقية بوخز الشفاه بعشرات الأبر لتغيير لونهما إلى اللون الأسود، انتقلت إلى العيش في منزل خالتي في حي البلد بجوار مقبرة "أمنا حواء" التي كانت تمني نفسها بأن تدفن معها عند مماتها. وأقول معها وليس فيها لأن جدتي كانت تعتقد بأن أمنا حواء مدفونة هناك وكنت أرد عليها ضاحكا بأن هذا اسم المقبرة وأن لا قبر لحواء هناك.
أمنية سِمبِل التي عاشت لترى أحفادها وأحفاد بناتها يكبرون أمامها بالدفن في مقبرة "أمنا حواء" كادت أن تتبخر. ففي ليلة من الليالي وبينما كانت تسبّح ربها كما تفعل عادة، اقتحم مسلحون من جهاز الجوازات منزل ابنتها وتم إلقاء القبض عليها وهي العجوز التي قاربت الثمانين وتم إيداعها السجن لأيام قبل ترحيلها إلى السودان.
يخبرني ابن خالتي الذي قام بعمل إجراءات حصولها على تأشيرة العمرة للعودة إلى السعودية من جديد بأن سِمبِل كانت مضربة عن الطعام والكلام وفي حالة اكتئاب وحزن متواصلين منذ وصولها إلى السودان وأن اليوم الوحيد الذي رأها تتكلم فيه كان اليوم الذي أخبرها فيه بأنها ستسافر إلى جدة بعد أيام. في ذلك اليوم، لم تتكلم سِمبِل فحسب بل غنت ورقصت أيضا وأنهت إضرابها عن الطعام ونشرت البهجة والسعادة في المنزل حتى حان موعد سفرها.
في شهر رمضان من عام 2005 وصلت سِمبِل من جديد إلى جدة للمرة الثانية بعد مرور قرابة 40 عاما على وصولها الأول. هذه المرة وصلت بالطائرة وليس بالباخرة وكان في استقبالها جيش من الأصحاب والمعارف والأحفاد ومنازل مشرعة لها وليس غريبة وحيدة كما دخلت أول مرة. عادت سِمبِل إلى حيث أرادت أن تعيش وأن تموت وما بين الدخولين قصص وحكايات وعبر وعبرات لأم مناضلة كل ما أرادت فعله هو أن تكون سيدة نفسها وأن تعيش الحياة التي تريد وأيضا الموت الذي تريد ومكان الدفن الذي تريد أيضا رغم أنف كل من أراد أن يفسد عليها ذلك في أواخر أيامها.
تمردت سِمبِل كشابة في الأربعين على الذكورية وعلى ثقافة القسر والإخضاع فتركت المدينة والدولة والقارة التي يعيش فيها من يتجرأ على فرض رأيه عليها. وتمردت مرة أخرى كعجوز على ثقافة الظلم والقسوة والعنصرية وانعدام الرحمة لتعود إلى الأرض التي اختارت وأحبت ولتلقى ربها بعد أيام قلائل من عودتها وتحقق آخر أحلامها في أن تدفن مع أمنا حواء وكان لها ما أرادت.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)