بقلم حسن منيمنة/
لا ليس كذلك. وليس المقصود الإصرار على أن على الولايات المتحدة تبديل موقف ما، بل العنوان هو من باب لفت النظر إلى قناعة تبدو راسخة في المواقف الناقدة لأية جهة متهمة بالخروج عن "الشرعية الدولية"، بغض النظر عن موضوع الخروج. فالشرعية الدولية وضرورة التقيد بها مسألة تبدو بديهية، وإثارة الشك بشأنها تبدو للوهلة الأولى عنادا أو مغالطة. ورغم ذلك، فإن الشرعية الدولية مفهوم يفتقد الوضوح في مضمونه والإجماع في اعتباره. واعتلاله هذا يؤسس لمواجهات (لا سيما عربية أميركية) تزيد الواقع الدولي تعقيدا.
طبعا ثمة عقود ومواثيق وقعت عليها معظم الدول، بعضها متزامن في نشأته مع منظمة الأمم المتحدة وبعضها الآخر يعود إلى عهد عصبة الأمم، بل إلى ما قبلها. كما أن قرارات مجلس الأمن الدولي هي أحكام ملزمة مبدئيا، وعند صدورها ضمن إطار الفصل السابع يصبح الإلزام تطبيقيا، وليس نظريا وحسب. ثم إن محكمة العدل الدولية والعديد من المنظمات المتخصصة التابعة لمنظومة الأمم المتحدة مخولة بإصدار الأحكام والقرارات ذات الطابع الإلزامي في مجال اختصاصها، في حين أن المحاكم الدولية الخاصة والتي تقام لمعالجة قضايا محددة تصدر بدورها أحكاما نافذة.
ولكن هذا كلّه لا يعني أن المجموعة الدولية ذات صفة كيانية، أو أن على رأسها حكومة عالمية، وإن في طور النشوء. فافتراض الأعلوية للشرعية الدولية هو نتيجة اعتبارات ذاتية في الثقافات التي تفترضها، وليس إقرارا بواقع متفق عليه.
ومن حيث المعطيات، فإن المرجعية العليا للشرعية الدولية، ذات الأهلية لإصدار القرارات ولتأسيس الهيئات والمنظمات التابعة للمنظومة الدولية، هي في مجلس الأمن الدولي وفي الجمعية العمومية للأمم المتحدة. أما مجلس الأمن، فامتلاك خمسة أعضاء فيه لحق النقض (بما في ذلك فرنسا وبريطانيا لأسباب تاريخية) ينفي أية سلطة فعلية للأعضاء غير الدائمين، ويجعل من مجلس الأمن محفلا لإبراز توافق الأعضاء الدائمين أو خلافهم. أي لا ينفع على الإطلاق، إلا من حيث الرمز الهلامي، أن يتفق ١٤ من أعضاء المجلس على مسألة ما إذا اعترض عليها أحد الأعضاء الدائمين، ما ينفي عنها صفة الشرعية الدولية. أما الجمعية العمومية، إذ يفترض أن توازن مجلس الأمن، رغم أن قرارتها في معظمها غير ملزمة، فهي تضم قرابة المئتين من الأعضاء لكل منهم صوت على التساوي عند التصويت. أي أن إحدى جزر المحيط الهادي ببضعة آلاف من المواطنين تحظى بصوت يعادل حصة الصين أو الهند في حين أن تعداد السكان في كل منهما يبلغ المليار ونيّف. ثم إن الجمعية العمومية لا يسعها زعم تمثيل مواطني كافة الدول، وإن بهذا التفاوت الشاسع بالمقادير، حيث أنها تجمع الدول ذات الأنظمة التمثيلية الصادقة بأخرى ذات أنظمة استبدادية لا اعتبار فيها لرأي المواطن. هي جمعية عمومية للدول إذن لا للأمم، ولا للمواطنين في أرجاء العالم. فللمحافظة على القيمة الرمزية وحسب لقراراتها، لا بد من تجاوز وجهي قصورها هذين أو تجاهلهما.
والموقف السائد في الولايات المتحدة من الشرعية الدولية والمؤسسات التي تأويها ينقسم إلى توجهين. التوجه الأول يرى العلل والقصور، ولكنه يعتبرها قابلة للتذليل، ويرى الخير في أن الأسرة الإنسانية، وإن بأشكال ناقصة، قادرة على التلاقي، فيدعو صراحة إلى تعزيز الإيجابي والقبول بالمرجعية الدولية شرط توافقها مع القيم العليا للولايات المتحدة. بل لا يرى حرجا في هذا الشرط سيما وأن قيام الإطار الدولي جرى بمبادرة من الولايات المتحدة، سواء عصبة الأمم أو الأمم المتحدة، بناء على قيمها. أما التوجه الثاني، فيتساءل عن إمكانية تجاوز العلل، بل عن جدوى السعي إلى ذلك، ويرضى بالشرعية الدولية وحسب كتأطير غير ملزم إلا في حال اعتماده صراحة من السلطة التشريعية الاتحادية المنتخبة من الجمهور الأميركي، أي الكونغرس. وعلى هامش هذين التوجهين شريحة ترى إلزامية الشرعية الدولية، وهي ذات تأثير ضئيل، وأخرى ترى رفضها القطعي جملة وتفصيلا على أنها انتهاك للسيادة الوطنية. ولهذه الشريحة السالبة، على هامشيتها، أصداء في أوساط المجتمع تتجاوز الشريحة الواجبة بمقادير.
أما في الإطار الثقافي العربي، فيمكن اختزال توزع المواقف إزاء الشرعية الدولية إلى ثلاثة توجهات، بينهما اثنان هامشيان وثالث سائد. التوجه الهامشي الأول أقرب إلى النظري منه إلى المتحقق، هو القائل بأن الشرعية الدولية قائمة وواجبة للطاعة. فانطلاقا من هذا التوجه يجوز مثلا دعوة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن جرائم وتجاوزات، بل الإمساك بزمام الأمور وصولا إلى سحب السيادة من دولة ما، كما في الدعوة إلى استلام القدس أو ما يتعداه. أما التوجه الهامشي الثاني، فهو القائل إن الشرعية الدولية باطلة أصلا وفعلا، وإنها خديعة لتحقيق مآرب ومكائد، سواء طرح بديل لها، وهو مرجعية الشريعة الإسلامية على الغالب، أم لم يطرح.
يبقى التوجه السائد الغالب في عموم الثقافة العربية، وهو أن الشرعية الدولية واجبة بديهيا، ولكن تطبيقها غير مكتمل لأن ثمة من يطوعها ويستبيحها لمصالحه الذاتية أو لصون مصالح حلفائه، كما الولايات المتحدة في حمايتها لإسرائيل، أو روسيا في نقضها لما يدين النظام القاتل في دمشق.
بل الواقع أن المرجعية المبدئية للحركات الثورية في الزمن القومي والأممي، وللحراك السياسي والاجتماعي قبله وبعده، كانت ولا تزال الشرعية الدولية وفق التوجه السائد، رغم أن هذه الشرعية الدولية المفترضة لم تأت بالنتيجة المرجوة لا في القضايا المصيرية ولا في الشؤون الحياتية.
والمفارقة هي أن الثقافة الأميركية بمجملها تقلل من شأن الشرعية الدولية، رغم أن الولايات المتحدة هي أحد الأطراف المقررة لهذه الشرعية، بل الطرف الأول، في حين أن الثقافة السياسية العربية تثمن هذه الشرعية الدولية، وإن لم تجن منها قط ما يبرر هذا التثمين.
وقد يعود أصل هذه المفارقة وهذا الاختلاف إلى الرصيد السياسي المغاير في السياقين. ففي الإطار الأميركي، إذ تشكلت التجربة السياسية على أساس السيادة المحلية المبنية على المواطن كأصل للسلطة، إذ له الانتخاب والمساءلة والسيادة، فيما السلطات، على مستوى الولايات كما على المستوى الاتحادي متفرعة منه. فالانتقال من المستوى الوطني الاتحادي إلى "الشرعية الدولية" لا يتم بناء على قراره الانتخابي، بل هو بأحسن الأحوال بفعل تفويض مشروط لمن انتخبه، أي الكونغرس، فهو بالتالي أقل وطأة ووزنا واعتبارا من "الشرعيات" التي تم اختيارها مباشرة، المحلية والولايتية والاتحادية.
أما الثقافة السياسية العربية فهي، وإن أرادت إسقاط الأنظمة في أحيان، فإنها على ما يبدو لم ترد إلى الآن إسقاط الأبوية، بل هي تستعيض عن أبوية بأخرى. فالملكيات العربية صادقة بتسمياتها، على رأسها ملك يملك ويحكم. أما "الجمهوريات"، فأكثرها تملكها وتحكمها "القيادات". والحديث هو عن "القيادة" والقائد، ومكانته مكانة الأب، والأصح أن تسمّى "قياديات" وليس جمهوريات. والأبوية تتجاوز الإطار الوطني، فالطوائف والعشائر لها قادتها وكل قائم مقام الأب، والأحزاب لها قادتها وهم كذلك آباء للأخوة والرفاق، والقائد الأب هو السيد، فيما المواطنون، والأصح الرعايا، هم بالتالي الأبناء (الأطفال؟) المسيدون. وكلما أرادت الثقافة السياسية العربية الاستعاضة عن قائد مرذول، جاءت بقائد مفضل، فهذا أب وذاك أب، والأسرة، وهي المقاربة المعتمدة للوطن، بحاجة إلى أب. وقد تكون قمة هذه الاستعاضات التمسك بمفهوم "شرعية دولية" أبوية عليا تقوم مقام الفضل بعد تهافت ما دونها.
وفي حين إن هذه القراءة لأصل تقديس الشرعية الدولية في الثقافة العربية ليست جامعة مانعة، فمما لا شك فيه أن الثقافتين العربية والأميركية تبقيان عاجزتين عن الحوار في شؤون عدة، ولا سيما ما يطال منها القضية الفلسطينية، ما لم تتفقا ألا تتفقان في شأن الشرعية الدولية.
--------------
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)