أعلام دول عدة خارج مقر الأمم المتحدة في نيويورك
أعلام الدول أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك

بقلم حسن منيمنة/

لا ليس كذلك. وليس المقصود الإصرار على أن على الولايات المتحدة تبديل موقف ما، بل العنوان هو من باب لفت النظر إلى قناعة تبدو راسخة في المواقف الناقدة لأية جهة متهمة بالخروج عن "الشرعية الدولية"، بغض النظر عن موضوع الخروج. فالشرعية الدولية وضرورة التقيد بها مسألة تبدو بديهية، وإثارة الشك بشأنها تبدو للوهلة الأولى عنادا أو مغالطة. ورغم ذلك، فإن الشرعية الدولية مفهوم يفتقد الوضوح في مضمونه والإجماع في اعتباره. واعتلاله هذا يؤسس لمواجهات (لا سيما عربية أميركية) تزيد الواقع الدولي تعقيدا.

طبعا ثمة عقود ومواثيق وقعت عليها معظم الدول، بعضها متزامن في نشأته مع منظمة الأمم المتحدة وبعضها الآخر يعود إلى عهد عصبة الأمم، بل إلى ما قبلها. كما أن قرارات مجلس الأمن الدولي هي أحكام ملزمة مبدئيا، وعند صدورها ضمن إطار الفصل السابع يصبح الإلزام تطبيقيا، وليس نظريا وحسب. ثم إن محكمة العدل الدولية والعديد من المنظمات المتخصصة التابعة لمنظومة الأمم المتحدة مخولة بإصدار الأحكام والقرارات ذات الطابع الإلزامي في مجال اختصاصها، في حين أن المحاكم الدولية الخاصة والتي تقام لمعالجة قضايا محددة تصدر بدورها أحكاما نافذة.

ولكن هذا كلّه لا يعني أن المجموعة الدولية ذات صفة كيانية، أو أن على رأسها حكومة عالمية، وإن في طور النشوء. فافتراض الأعلوية للشرعية الدولية هو نتيجة اعتبارات ذاتية في الثقافات التي تفترضها، وليس إقرارا بواقع متفق عليه.

ومن حيث المعطيات، فإن المرجعية العليا للشرعية الدولية، ذات الأهلية لإصدار القرارات ولتأسيس الهيئات والمنظمات التابعة للمنظومة الدولية، هي في مجلس الأمن الدولي وفي الجمعية العمومية للأمم المتحدة. أما مجلس الأمن، فامتلاك خمسة أعضاء فيه لحق النقض (بما في ذلك فرنسا وبريطانيا لأسباب تاريخية) ينفي أية سلطة فعلية للأعضاء غير الدائمين، ويجعل من مجلس الأمن محفلا لإبراز توافق الأعضاء الدائمين أو خلافهم. أي لا ينفع على الإطلاق، إلا من حيث الرمز الهلامي، أن يتفق ١٤ من أعضاء المجلس على مسألة ما إذا اعترض عليها أحد الأعضاء الدائمين، ما ينفي عنها صفة الشرعية الدولية. أما الجمعية العمومية، إذ يفترض أن توازن مجلس الأمن، رغم أن قرارتها في معظمها غير ملزمة، فهي تضم قرابة المئتين من الأعضاء لكل منهم صوت على التساوي عند التصويت. أي أن إحدى جزر المحيط الهادي ببضعة آلاف من المواطنين تحظى بصوت يعادل حصة الصين أو الهند في حين أن تعداد السكان في كل منهما يبلغ المليار ونيّف. ثم إن الجمعية العمومية لا يسعها زعم تمثيل مواطني كافة الدول، وإن بهذا التفاوت الشاسع بالمقادير، حيث أنها تجمع الدول ذات الأنظمة التمثيلية الصادقة بأخرى ذات أنظمة استبدادية لا اعتبار فيها لرأي المواطن. هي جمعية عمومية للدول إذن لا للأمم، ولا للمواطنين في أرجاء العالم. فللمحافظة على القيمة الرمزية وحسب لقراراتها، لا بد من تجاوز وجهي قصورها هذين أو تجاهلهما.

والموقف السائد في الولايات المتحدة من الشرعية الدولية والمؤسسات التي تأويها ينقسم إلى توجهين. التوجه الأول يرى العلل والقصور، ولكنه يعتبرها قابلة للتذليل، ويرى الخير في أن الأسرة الإنسانية، وإن بأشكال ناقصة، قادرة على التلاقي، فيدعو صراحة إلى تعزيز الإيجابي والقبول بالمرجعية الدولية شرط توافقها مع القيم العليا للولايات المتحدة. بل لا يرى حرجا في هذا الشرط سيما وأن قيام الإطار الدولي جرى بمبادرة من الولايات المتحدة، سواء عصبة الأمم أو الأمم المتحدة، بناء على قيمها. أما التوجه الثاني، فيتساءل عن إمكانية تجاوز العلل، بل عن جدوى السعي إلى ذلك، ويرضى بالشرعية الدولية وحسب كتأطير غير ملزم إلا في حال اعتماده صراحة من السلطة التشريعية الاتحادية المنتخبة من الجمهور الأميركي، أي الكونغرس. وعلى هامش هذين التوجهين شريحة ترى إلزامية الشرعية الدولية، وهي ذات تأثير ضئيل، وأخرى ترى رفضها القطعي جملة وتفصيلا على أنها انتهاك للسيادة الوطنية. ولهذه الشريحة السالبة، على هامشيتها، أصداء في أوساط المجتمع تتجاوز الشريحة الواجبة بمقادير.

أما في الإطار الثقافي العربي، فيمكن اختزال توزع المواقف إزاء الشرعية الدولية إلى ثلاثة توجهات، بينهما اثنان هامشيان وثالث سائد. التوجه الهامشي الأول أقرب إلى النظري منه إلى المتحقق، هو القائل بأن الشرعية الدولية قائمة وواجبة للطاعة. فانطلاقا من هذا التوجه يجوز مثلا دعوة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن جرائم وتجاوزات، بل الإمساك بزمام الأمور وصولا إلى سحب السيادة من دولة ما، كما في الدعوة إلى استلام القدس أو ما يتعداه. أما التوجه الهامشي الثاني، فهو القائل إن الشرعية الدولية باطلة أصلا وفعلا، وإنها خديعة لتحقيق مآرب ومكائد، سواء طرح بديل لها، وهو مرجعية الشريعة الإسلامية على الغالب، أم لم يطرح.

يبقى التوجه السائد الغالب في عموم الثقافة العربية، وهو أن الشرعية الدولية واجبة بديهيا، ولكن تطبيقها غير مكتمل لأن ثمة من يطوعها ويستبيحها لمصالحه الذاتية أو لصون مصالح حلفائه، كما الولايات المتحدة في حمايتها لإسرائيل، أو روسيا في نقضها لما يدين النظام القاتل في دمشق.

بل الواقع أن المرجعية المبدئية للحركات الثورية في الزمن القومي والأممي، وللحراك السياسي والاجتماعي قبله وبعده، كانت ولا تزال الشرعية الدولية وفق التوجه السائد، رغم أن هذه الشرعية الدولية المفترضة لم تأت بالنتيجة المرجوة لا في القضايا المصيرية ولا في الشؤون الحياتية.

والمفارقة هي أن الثقافة الأميركية بمجملها تقلل من شأن الشرعية الدولية، رغم أن الولايات المتحدة هي أحد الأطراف المقررة لهذه الشرعية، بل الطرف الأول، في حين أن الثقافة السياسية العربية تثمن هذه الشرعية الدولية، وإن لم تجن منها قط ما يبرر هذا التثمين.

وقد يعود أصل هذه المفارقة وهذا الاختلاف إلى الرصيد السياسي المغاير في السياقين. ففي الإطار الأميركي، إذ تشكلت التجربة السياسية على أساس السيادة المحلية المبنية على المواطن كأصل للسلطة، إذ له الانتخاب والمساءلة والسيادة، فيما السلطات، على مستوى الولايات كما على المستوى الاتحادي متفرعة منه. فالانتقال من المستوى الوطني الاتحادي إلى "الشرعية الدولية" لا يتم بناء على قراره الانتخابي، بل هو بأحسن الأحوال بفعل تفويض مشروط لمن انتخبه، أي الكونغرس، فهو بالتالي أقل وطأة ووزنا واعتبارا من "الشرعيات" التي تم اختيارها مباشرة، المحلية والولايتية والاتحادية.

أما الثقافة السياسية العربية فهي، وإن أرادت إسقاط الأنظمة في أحيان، فإنها على ما يبدو لم ترد إلى الآن إسقاط الأبوية، بل هي تستعيض عن أبوية بأخرى. فالملكيات العربية صادقة بتسمياتها، على رأسها ملك يملك ويحكم. أما "الجمهوريات"، فأكثرها تملكها وتحكمها "القيادات". والحديث هو عن "القيادة" والقائد، ومكانته مكانة الأب، والأصح أن تسمّى "قياديات" وليس جمهوريات. والأبوية تتجاوز الإطار الوطني، فالطوائف والعشائر لها قادتها وكل قائم مقام الأب، والأحزاب لها قادتها وهم كذلك آباء للأخوة والرفاق، والقائد الأب هو السيد، فيما المواطنون، والأصح الرعايا، هم بالتالي الأبناء (الأطفال؟) المسيدون. وكلما أرادت الثقافة السياسية العربية الاستعاضة عن قائد مرذول، جاءت بقائد مفضل، فهذا أب وذاك أب، والأسرة، وهي المقاربة المعتمدة للوطن، بحاجة إلى أب. وقد تكون قمة هذه الاستعاضات التمسك بمفهوم "شرعية دولية" أبوية عليا تقوم مقام الفضل بعد تهافت ما دونها.

وفي حين إن هذه القراءة لأصل تقديس الشرعية الدولية في الثقافة العربية ليست جامعة مانعة، فمما لا شك فيه أن الثقافتين العربية والأميركية تبقيان عاجزتين عن الحوار في شؤون عدة، ولا سيما ما يطال منها القضية الفلسطينية، ما لم تتفقا ألا تتفقان في شأن الشرعية الدولية.

--------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.