لقطة من فيلم خلي بالك من زوزو
لقطة من فيلم خلي بالك من زوزو

بقلم كوليت بهنا/

استوقفتني قبل أيام الإعادة التلفزيونية ربما الألف للفيلم السينمائي المصري الأشهر(خلي بالك من زوزو) 1972، من إخراج حسن الإمام وبطولة النجمة الراحلة سعاد حسني، وهو فيلم درامي-غنائي متكامل يشعر المرء مع كل مشاهدة له بمتعة متجددة، وكأني به يشبع رغبة جمالية تبدو أنها باتت حاجة وتوقا في عصر نعيشه ينحو نحو الظلامية والقباحة أكثر فأكثر.

أراد مؤلف الفيلم الشاعر المصري الراحل صلاح جاهين الذي انحاز في كل سيرته الإبداعية للجمال والفن والحرية والفقراء "الغلابة"، أن ينصف الفن المصري الشعبي ويعيد له الاعتبار، وأبرز رموزه الرقص الشرقي. يحكي الفيلم عن شابة تدرس في الجامعة وتنتمي إلى أسرة من "العالمات" وهو التعبير الذي يستخدم للراقصات والفرق الفنية التي تحيي الحفلات وتزف العروسين في حفلات الزفاف. وحين يقع في غرامها بطل الفيلم حسين فهمي ابن الطبقة الثرية المخملية، تقوم الدنيا ولا تقعد. هذه الثيمة التي تتكرر باستمرار في كل السينما العالمية وخاصة البوليوودية، تختلف هنا قليلا، إذ أن الصراع لا يدور بين طبقتين اجتماعيتين فحسب، بل يتمحور حول احتقار الطبقة الثرية وتعاليهم على الفئات العاملة بالفن الشعبي (دون أن يشفع للراقصة أنها جربت تغيير مصيرها ونيل شهادة جامعية)، وحصر الاحترام فقط بالفنون المستوردة التي صنفت طبقيا أيضا بأنها فنون راقية لأنها تخص الطبقات الراقية، كالباليه وعزف البيانو وبعض عروض المسرح المأخوذة عن نصوص أجنبية.

هذه النظرة المتعالية التي تصف فنا شعبيا كالرقص الشرقي والعاملين فيه بـ"الرخص"، لم تتغير رغم مرور الزمن، بل باتت تلتقي مع النظرة الدينية السائدة منذ أكثر من عقدين في مصر للفنون عموما، والتي لا تكتفي بوصفها بالرخص وحسب، بل بالحرام أيضا، وهو الأمر الذي دفع الكثير من رائدات الفنون المصريات، مغنيات وممثلات وراقصات، إلى الاختفاء فجأة عن الساحة الفنية واعتزال الفن والتحجب في عمر يتراوح بين الأربعين والخمسين، دون أن تنجو النجمات الجديدات الشابات من الترهيب الديني، الأمر الذي دفعهن إلى إعلان التوبة والتفرغ للعبادة، وما قبولهن بالأمر إلا تأكيد على قناعاتهن الجديدة بأن ممارسة الفن الذي كنّ يؤدينه بأشكال مختلفة كان حراما. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كثيرات منهن أردن مسح تاريخهن الفني وكأنه لم يكن، عبر التدخل عند بعض أصحاب المحطات التي تعيد مرارا وتكرارا عرض أعمالهن القديمة، والطلب منهم عدم عرض تلك الأعمال "الخاطئة والمشينة" بنظرهن، لكن هذه المحطات التي لا تكترث إلا للجانب التجاري في هذه القضية، أصرت على أن هذه الأعمال الهامة تاريخ وذاكرة للفن وبالطبع، رفضت طلب التائبات.

في تاريخ الفن الدرامي أو السينمائي في سوريا، لوحظ أيضا أن أبناء وبنات العائلات الكبرى المعروفة لا يُقبلون على مثل هذه الفنون منذ بداياتها الأولى، وإن دققت في منشأ العاملين والعاملات في هذه الفنون وغيرها، ستكتشف أن النسبة العظمى كانت ولا تزال هي لوافدين ووافدات من باقي المدن السورية والمناطق الفقيرة للعمل في العاصمة، أما أبناء وبنات العائلات الكبرى المعروفة والثرية والمتدينة فإن إقبالهم على الفنون ينحصر وبنسبة ضعيفة على تعلم الموسيقى والباليه أحيانا، وما تفسير هذا الإحجام إلا بكونه نظرة غير معلنة تعتبر أن الفن، إن لم يكن حراماً فهو مكروه، ومن النادر أن تعثر على زواج بين أحد أبناء هذه الطبقات وأحد الفنانين أو الفنانات، وإن حدثت بعض الاستثناءات، فمعظمها رغما عن إرادة الأهل الذين يصيرون في مهب رياح القيل والقال والانتقاد، واهتزاز صورتهم الاجتماعية.

الرقص الشرقي اكتشف جمالياته كفن استثنائي العالم الغربي، وباتت له مدارس خاصة لتعليمه في كل مكان وخاصة في أميركا، فيما لم يُترك لنا في هذه البلاد، إلا الرقص كالطيور مذبوحين من الألم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.