بقلم منصور الحاج/
خرجت جموع غفيرة من مختلف أطياف الشعب السوداني في الأيام الماضية في مسيرات حاشدة احتجاجا على غلاء المعيشة واستشراء الفساد وفشل السياسات الحكومية في توفير الأمن والاستقرار والحياة الكريمة، واعتراضا على تغوّل الأجهزة الأمنية في القمع وانتهاك الحقوق والحريات.
وطالب الموطنون الذين استجابوا لدعوات الأحزاب والنشطاء السياسيين في الداخل والخارج عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بضرورة الخروج والمطالبة بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير وحزبه وزبانيته وأزلامه من الإسلاميين المعروفون بـ"الكيزان".
وتميزت هذه الهبة الأخيرة للشعب السوداني ضد النظام الذي يحكم البلاد منذ عام 1989 بمشاركة كبيرة لغالبية الشرائح المكونة للشعب في المدن والمناطق المختلفة بالإضافة إلى مشاركة فئات عمرية مختلفة ضمت إلى جانب الشباب الأطفال وكبار السن من الجنسين.
الزيادة الأخيرة في سعر الخبز وإن كانت القشة التي قصمت ظهر الشعب السوداني، إلا أن حالة الاحتقان والسخط الشعبي على النظام لم تهدأ منذ سنوات مع استمرار السلطات في إثقال كاهل الشعب بدءا برفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية وانتهاء بالسياسات الخارجية المتخبطة كتوريط الجيش السوداني في الحرب ضد جماعة "أنصار الله" في اليمن، وطلب الحماية من روسيا والتنازل عن ميناء سواكن لتركيا.
ولم يهدأ النشطاء السياسيين في الداخل والخارج على مدى سنوات عن تسليط الضوء على الأوضاع المتدهورة في البلاد على جميع الأصعدة عبر المنابر المختلفة وأهمها وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة الفيسبوك والقنوات الفضائية ومجموعات الواتساب متحدثين بكل جرأة عن فشل السياسات الحكومية وعجزها في تحقيق آمال وطموحات الشعب السوداني.
فمن الداخل، طالبت العديد من الشخصيات السياسية البارزة الرئيس البشير بالتنحي، أمثال زعيم حزب الأمة الصادق المهدي والمسؤول السابق والقيادي في حركة "الإصلاح الآن" مبارك الكودة في رسالة مفتوحة بعنوان "آن أوان التنحي سيدي الرئيس" بالإضافة إلى الشيخ محمد أبو عبيدة حسن إمام مسجد "دوحة الإيمان" في خطبة بعنوان "مهلا فخامة الرئيس".
أما في وسائل التواصل الاجتماعي فقد انتشرت العديد من الفيديوهات أبطالها أطفال خاطبوا البشير بجرأة وبراءة معربين عن احتجاجهم على الزيادة الأخيرة في أسعار الخبز كتلك الطفلة التي استنكرت ارتفاع سعر رغيف الخبز قائلة بملامح جادة وصوت حاد وهي تلوح وفي يدها قطعة خبز: "عمر البشير، العيشة الواحدة بجنيه يعني؟" وخاتمة بقولها: "الله يدينا الصبر".
من المشاركات الجرئية أيضا، في وسائل التواصل الاجتماعي، كلمة الخال إبراهيم في البث المباشر عبر خدمة فيسبوك لايف من صفحة الناشط أحمد الضي بشارة حيث طالب الشعب بالخروج والاعتصام في الشوارع والميادين العامة إلى أن يسقط النظام. وتساءل الخال إبراهيم عن أسباب صمت الشعب وصبره على سياسات الحكومة في ظل ارتفاع الأسعار إلى حد أصبح فيه من المستحيل على محدودي الدخل تلبية المتطلبات الأساسية للحياة.
من جانبها، تجاهلت السلطات السودانية تلك المطالب وواجهت الاحتجاجات بمزيد من القمع والتنكيل فاعتقلت عشرات النشطاء والقياديين بل وحتى مراسلي وكالات الأنباء الدولية والقنوات الفضائية واستخدمت القوة في تفريق المتظاهرين الذين تم استهدافهم بالقنابل المسيلة للدموع وضربهم بالهراوات على الرغم من تشديد المتظاهرين بأن مسيرتهم سلمية.
أما الكترونيا، فقد أطلقت السلطات العنان لمناصريها الذين يطلق عليهم مسمى "الدجاج الإلكتروني"، وهو وصف مرادف لــ"الذباب الإلكتروني" الذي يطلقه النشطاء السعوديين على أصحاب الحسابات الوهمية في وسائل التواصل الإجتماعي الذين يستميتون في الدفاع عن آل سعود وسياساتهم، للتشكيك في نوايا المحتجين وتخوينهم وتثبيط همّة الشعب وترويج فكرة أن الإطاحة بنظام البشير قد تجلب الويلات على البلاد والعباد.
وفي خضم كل هذا الضنك وشظف العيش والجوع والتشريد الذي يعيشه الشعب السوداني، لم يفقد حسّه النقدي الفكاهي على الأوضاع ولم يتوقف عن الأبداع في مجال النكتة والكاريكاتير معبرا عن معاناته بأسلوب ساخر ناشرا البسمة على الشفاه الحزينة والوجوه العابسة.
وإن كان ارتفاع سعر الرغيف قد تسبب في زيادة أعداد الجوعى، فقد زاد أيضا كلمة جديدة في قاموس اللهجة السودانية بإضافة صفة "مستغرف" التي تم تعريفها بأنها حال الشخص الذي يتكبر على أصدقائه ويتجاهل معارفه بعد ثرائه أو تغير وضعه الاجتماعي في إشارة ساخرة إلى زيادة أسعار الخبز.
ومن أطرف ما قرأت مؤخرا الإعلان الذي نشره أحدهم على مجموعات الواتساب عن "وجود عدد 20 عيشة بايتة ولكن بحالة جيدة مطلوب عليها 15 جنيه... سعر نهائي... وعلى الجادين التواصل عبر الخاص".
كما نشر آخر قائمة بأسعار الخبز في السنوات الخمس الأخيرة حيث يلاحظ تناقص أعداد قطع الخبز في كل عام مقابل الجنيه من خمس قطع في 2014 إلى أربع في 2015 إلى ثلاث في 2016 إلى اثنين في 2017 إلى واحدة في 2018 متوقعا أن مجرد النظر إلى الخبز في 2019 سيكلف جنيها واحدا.
وطرفة أخرى تقول بأن شابا تقدم للعمل في جهاز الأمن وأثناء المقابلة سأله المسؤول إن كان قد عمل لدى أي جهة معادية للوطن، فأجاب: لا، هذه هي المرة الأولى التي قررت فيها الانضمام إلى جهة معادية للوطن.
وما بين مسيرات الاحتجاج الجماهيرية على الأرض والنكات الساخرة على الأوضاع يزداد السخط العام ضد النظام الذي فقد هيبته وفقد ثقة الشعب به وعبثا يحاول التشبث بالسلطة بالقوة عبر أجهزته الأمنية وأنصاره من "الكيزان" و"الدجاج الإلكتروني".
ـــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)