قلّ عدد قطع الخبز في كل عام مقابل الجنيه من خمس قطع عام 2014 إلى واحدة عام 2018 (أ ف ب)
قلّ عدد قطع الخبز في كل عام مقابل الجنيه من خمس قطع عام 2014 إلى واحدة عام 2018 (أ ف ب)

بقلم منصور الحاج/

خرجت جموع غفيرة من مختلف أطياف الشعب السوداني في الأيام الماضية في مسيرات حاشدة احتجاجا على غلاء المعيشة واستشراء الفساد وفشل السياسات الحكومية في توفير الأمن والاستقرار والحياة الكريمة، واعتراضا على تغوّل الأجهزة الأمنية في القمع وانتهاك الحقوق والحريات.

وطالب الموطنون الذين استجابوا لدعوات الأحزاب والنشطاء السياسيين في الداخل والخارج عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بضرورة الخروج والمطالبة بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير وحزبه وزبانيته وأزلامه من الإسلاميين المعروفون بـ"الكيزان".

وتميزت هذه الهبة الأخيرة للشعب السوداني ضد النظام الذي يحكم البلاد منذ عام 1989 بمشاركة كبيرة لغالبية الشرائح المكونة للشعب في المدن والمناطق المختلفة بالإضافة إلى مشاركة فئات عمرية مختلفة ضمت إلى جانب الشباب الأطفال وكبار السن من الجنسين.

الزيادة الأخيرة في سعر الخبز وإن كانت القشة التي قصمت ظهر الشعب السوداني، إلا أن حالة الاحتقان والسخط الشعبي على النظام لم تهدأ منذ سنوات مع استمرار السلطات في إثقال كاهل الشعب بدءا برفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية وانتهاء بالسياسات الخارجية المتخبطة كتوريط الجيش السوداني في الحرب ضد جماعة "أنصار الله" في اليمن، وطلب الحماية من روسيا والتنازل عن ميناء سواكن لتركيا.

ولم يهدأ النشطاء السياسيين في الداخل والخارج على مدى سنوات عن تسليط الضوء على الأوضاع المتدهورة في البلاد على جميع الأصعدة عبر المنابر المختلفة وأهمها وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة الفيسبوك والقنوات الفضائية ومجموعات الواتساب متحدثين بكل جرأة عن فشل السياسات الحكومية وعجزها في تحقيق آمال وطموحات الشعب السوداني.

فمن الداخل، طالبت العديد من الشخصيات السياسية البارزة الرئيس البشير بالتنحي، أمثال زعيم حزب الأمة الصادق المهدي والمسؤول السابق والقيادي في حركة "الإصلاح الآن" مبارك الكودة في رسالة مفتوحة بعنوان "آن أوان التنحي سيدي الرئيس" بالإضافة إلى الشيخ محمد أبو عبيدة حسن إمام مسجد "دوحة الإيمان" في خطبة بعنوان "مهلا فخامة الرئيس".

أما في وسائل التواصل الاجتماعي فقد انتشرت العديد من الفيديوهات أبطالها أطفال خاطبوا البشير بجرأة وبراءة معربين عن احتجاجهم على الزيادة الأخيرة في أسعار الخبز كتلك الطفلة التي استنكرت ارتفاع سعر رغيف الخبز قائلة بملامح جادة وصوت حاد وهي تلوح وفي يدها قطعة خبز: "عمر البشير، العيشة الواحدة بجنيه يعني؟" وخاتمة بقولها: "الله يدينا الصبر".

من المشاركات الجرئية أيضا، في وسائل التواصل الاجتماعي، كلمة الخال إبراهيم في البث المباشر عبر خدمة فيسبوك لايف من صفحة الناشط أحمد الضي بشارة حيث طالب الشعب بالخروج والاعتصام في الشوارع والميادين العامة إلى أن يسقط النظام. وتساءل الخال إبراهيم عن أسباب صمت الشعب وصبره على سياسات الحكومة في ظل ارتفاع الأسعار إلى حد أصبح فيه من المستحيل على محدودي الدخل تلبية المتطلبات الأساسية للحياة.

من جانبها، تجاهلت السلطات السودانية تلك المطالب وواجهت الاحتجاجات بمزيد من القمع والتنكيل فاعتقلت عشرات النشطاء والقياديين بل وحتى مراسلي وكالات الأنباء الدولية والقنوات الفضائية واستخدمت القوة في تفريق المتظاهرين الذين تم استهدافهم بالقنابل المسيلة للدموع وضربهم بالهراوات على الرغم من تشديد المتظاهرين بأن مسيرتهم سلمية.

أما الكترونيا، فقد أطلقت السلطات العنان لمناصريها الذين يطلق عليهم مسمى "الدجاج الإلكتروني"، وهو وصف مرادف لــ"الذباب الإلكتروني" الذي يطلقه النشطاء السعوديين على أصحاب الحسابات الوهمية في وسائل التواصل الإجتماعي الذين يستميتون في الدفاع عن آل سعود وسياساتهم، للتشكيك في نوايا المحتجين وتخوينهم وتثبيط همّة الشعب وترويج فكرة أن الإطاحة بنظام البشير قد تجلب الويلات على البلاد والعباد.

وفي خضم كل هذا الضنك وشظف العيش والجوع والتشريد الذي يعيشه الشعب السوداني، لم يفقد حسّه النقدي الفكاهي على الأوضاع ولم يتوقف عن الأبداع في مجال النكتة والكاريكاتير معبرا عن معاناته بأسلوب ساخر ناشرا البسمة على الشفاه الحزينة والوجوه العابسة.

وإن كان ارتفاع سعر الرغيف قد تسبب في زيادة أعداد الجوعى، فقد زاد أيضا كلمة جديدة في قاموس اللهجة السودانية بإضافة صفة "مستغرف" التي تم تعريفها بأنها حال الشخص الذي يتكبر على أصدقائه ويتجاهل معارفه بعد ثرائه أو تغير وضعه الاجتماعي في إشارة ساخرة إلى زيادة أسعار الخبز.

ومن أطرف ما قرأت مؤخرا الإعلان الذي نشره أحدهم على مجموعات الواتساب عن "وجود عدد 20 عيشة بايتة ولكن بحالة جيدة مطلوب عليها 15 جنيه... سعر نهائي... وعلى الجادين التواصل عبر الخاص".

كما نشر آخر قائمة بأسعار الخبز في السنوات الخمس الأخيرة حيث يلاحظ تناقص أعداد قطع الخبز في كل عام مقابل الجنيه من خمس قطع في 2014 إلى أربع في 2015 إلى ثلاث في 2016 إلى اثنين في 2017 إلى واحدة في 2018 متوقعا أن مجرد النظر إلى الخبز في 2019 سيكلف جنيها واحدا.

وطرفة أخرى تقول بأن شابا تقدم للعمل في جهاز الأمن وأثناء المقابلة سأله المسؤول إن كان قد عمل لدى أي جهة معادية للوطن، فأجاب: لا، هذه هي المرة الأولى التي قررت فيها الانضمام إلى جهة معادية للوطن.

وما بين مسيرات الاحتجاج الجماهيرية على الأرض والنكات الساخرة على الأوضاع يزداد السخط العام ضد النظام الذي فقد هيبته وفقد ثقة الشعب به وعبثا يحاول التشبث بالسلطة بالقوة عبر أجهزته الأمنية وأنصاره من "الكيزان" و"الدجاج الإلكتروني".

ـــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.