نساء سعوديات في معرض جدة للكتاب (أرشيف)
نساء سعوديات في معرض جدة للكتاب (أرشيف)

بقلم محمد علي المحمود/

هل نحن في العالم العربي لا نزال خارج "زمن التنوير"؛ على الرغم من مرور ما يُناهِز القرنين على البِعْثة العربية الأولى التي حطّت رحالها في عاصمة التنوير: باريس؟ أم أننا قطعنا بضع خطوات حقيقية داخل هذا "الزمن التنويري" الذي تَعَوْلمت قِيَمه؛ فأصبحت تصوغ العالم من حيث يدري أولا يدري؟ هل نحن نستقبل "زمن التنوير"، ككثير من دول العالم الثالث/النامي، وبالتالي، نقف على أعتابه مترددين حائرين، أم نتفاءل فنقول: إننا نتموضع فيه فِعْلاً وتَفاعُلاً؟ أم يذهب بنا الوهم بعيداً فنتصور أننا تجاوَزْناه، وأصبحنا نعيش "زمن ما بعد التنوير"، ناقدين ومُصحِّحِين؛ كما هو الحال في العالم الغربي؟

يطرح كثير من المُفكّرين العرب أسئلةَ التنوير ــ فيما يخص "زمن التنوير" ــ على هذا النحو المُتردّد الحائر المُرتاب. الأطروحات النظرية المجردة تمتلك ترف الإمعان في التفاؤل، بينما نجد كل المؤشرات، وعلى كل المستويات، تُؤكد أن "زمن التنوير" في العالم العربي يقع في المستقبل، يقع خارج اللحظة الراهنة، لا على المستوى العملي/التطبيقي فحسب، وإنما حتى على المستوى النظري في لغة الخطاب الثقافي العام.

المُتفائلون يعتقدون ــ منذ أمد ــ أن ثقافة التنوير وقِيَمه أصبحت راسخة الجذور، وأنها مُتحقّقة في الواقع بالصورة التي تجعل من البحث عن استدعائها مجرد عبث ثقافي، بل وعبث إيديولوجي/سياسي يُرْبِك الواقع على نحو مباشر أيضاً. ومصدر الوهم الأساسي عند هؤلاء ليس المغالطة الثقافية، ولا الانكفاء الثقافي، ولا الموقف الضِّدّي من الآخر (رغم وجود كل هذه بِنِسَبٍ مُتفاوتة)، وإنما هو كونهم لا يعون الفرق بين وجود تيارات تنويرية، ومفكرين وأدباء تنويريين، وبين تَشَكّل خطاب ثقافي تنويري عام، يتمدد على مدى زمني واسع، بحيث تستطيع منظومة القيم المُتَضَمّنة فيه أن تصوغَ الواقع وتُهيمنَ على مساراته الكبرى.

إن تحقّق/تجسّد القيم الرئيسة ــ التي يتضمّنُها الخطاب التنويري أصالة ــ في الواقع، هو تحقّق/تجسّد مسبوق ــ منطقيا ــ بهَيْمَنة الخطاب التنويري على نظام الوعي العام. وهذا (هيمنة الخطاب التنويري على نظام الوعي) لم يحدث إلى الآن في العالم العربي، رغم كل الجهود الجبّارة المُقدّمة ــ وإن على هيئة مبادرات فردية/غير مُؤسّسِاتيّة ــ والمنتظمة في تاريخنا منذ الطهطاوي ومحمد عبده وشبلي شميل وإسماعيل مظهر والكواكبي وطه حسين، إلى فتحي المسكيني وعلي حرب وعبد الجبار الرفاعي وكمال عبد اللطيف وهاشم صالح وعبد الإله بلقزيز، مروراً بالكبار في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية هذا القرن، كالجابري وحسن حنفي والعروي وجورج طرابيشي وعلي الوردي وأركون والطيب تيزيني وفهمي جدعان... إلخ.

إذن، ثقافة التنوير حاضرة في السياق العربي، ولكنها لا تزال تعيش غربتها الطويلة رغم كل محاولات الاختراق. لكي تخترق هذه الثقافة نظامَ الوعي النظري العام، وتتسرب من خلاله إلى فضاء الوجدان الجماهيري؛ فتصبح قادرة على التحكم في السلوكيات الجمعية، تحتاج إلى جهود مؤسساتية كبرى تتعاضد مع تلك الجهود الفردية التي تخوض معركة "نضال" ثقافي استثناني. ما لم نرَ هذه الجهود المؤسساتية المدعومة بقرارات سيادية كبرى، فلن نرى "زمن التنوير" حقيقة في واقعنا. بل إن الواقع العربي يشهد بأن تلك الجهود التنويرية/الفردية المُضيئة في سمائه القاتم، لم تكن بمنجى من الاغتيال المعنوي على مستوى الانتكاسات الأصولية التي لا تزال ــ رغم انكشافها عن نسق تَخلّف، أو عن نَسَق تطرفٍ، أو عنهما معاً ــ تتحكم في معظم خيارات الجماهير في العالم العربي.

إن التراجع الظاهري، النسبي، للمنظومات التقليدية، والطفرات التقنية التي اجتاحتنا بدافع من التوجهات الاستهلاكية، والتقارب التواصلي مع العالم، كل ذلك أوحى لكثيرين بأننا نعيش "زمن التنوير" كما يعيشه الغرب الحضاري. نحن كثيراً ما نؤكد وَهْمنا هذا؛ بينما الغرب الحضاري ذاته لا يزال يتشكّك في كونه تمثّل قيمَ التنوير حقيقة. يقول المفكر الألماني هارالد موللر في كتابه (تعايش الثقافات) ص130: "وحتى اليوم ما يزال التزمت الديني، والمعتقدات الشعبية، والخيالات الدينية تتربص بكثافة شديدة تحت القشرة العقلانية لمجتمعاتنا"، كما يقول في ص143: "إن رفض الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان موجود في حضن تاريخنا الخاص. وهذا يعني أيضا في وسط مجتمعنا الحالي". فإذا كان مفكر من أقصى العمق الحضاري لـ"حضارة التنوير" يؤكد أن التنوير لم يحسم انتصاره بالكامل، بل وأن انتصاره يحمل في طيّاته القابلية للانتكاس؛ فكيف هو الحال في مجتمعاتنا التي لا تزال الخطابات الثقافية المسيطرة فيها تَمْتَهن هِجَاء التنوير، سواء من قِبَل اليمين المتطرف، أو اليسار الذي لا يزال يُهوّم في الفضاء العقلي لإيديولوجيا مكافحة الاستعمار.

تتضاعف صُوَر التأزّم في علاقتنا بالتنوير، عندما ندرك هشاشة كثير من مسارات التنوير في عالمنا الثالث: العربي/الإسلامي، وعندما ندرك أن فَهْمها للتنوير هو ــ في الغالب ــ اجتزائي/ابتساري، مُفْتقرٌ للوعي التاريخي، ثم هو مُرْتَهنٌ لسياقات إيديولوجية/سياسية، بحيث يصل الأمر إلى أن يكون مجرد تَمَظْهرٍ بمُصْطلحات وشعارات التنوير، دون أي عمل على ما تحتها من مفاهيم أساسية. وهذا ما لمحه المفكر الإيراني الأصل داريوش شايغان عندما استعرض علاقة العالم الثالث/المتخلف بالفكر العقلاني الغربي. يقول شايغان: "كل شيء يبعث على الاعتقاد الجازم بأن هذا القسم الكبير من الإنسانية لم يملك مستغلقات أصل الفكر الغربي وتسلسل حلقاته. لقد أمسك بخُفيّ هذا التيار الأيديولوجي أو هذه المدرسة أو تلك الموضة الفكرية دون أن يكون أبداً جزءاً من القوة المحركة لهذا الفكر" (ما الثورة الدينية ص245).

ولو كان التأزم يقف عند حدود هذه الهشاشة التي تُعلن عن نفسها في تَردّي مستوى المُثَاَقَفة مع تراث التنوير، أو أن الأمر يتعلّق بالخِفَّة التي يأخذ بها بعض "المُتَثيقفين" من مؤدلجي التيارات السياسية، أو من "عرائس الإعلام" مقولات: العقلانية، العلمنة، التنوير، الحداثة؛ لأمكن تلافي انعكاسات هذا الوضع الكارثي، ولكن المشكلة تكمن في تحوّل بعض المثقفين، بل وبعض كبار المفكرين في العالم العربي، إلى هَجّائين لخطاب التنوير، أو على الأقل إلى مُشكّكين في جَدواه، أو إلى مُحَذّرين من المآلات السلبية للمغالاة في تفعيله، وكأننا نعاني من "تُخْمة عقلانية/تنويرية" كما هو الحال الغرب، فنحتاج إلى "حِمْية" فكرية لنحصل على عقل تنويري رشيق

عندما يتحدث مفكر عربي كبير، كعبد الوهاب المسيري ـــ بمناسبة وبدون مناسبة ــ عن الاستنارة المظلمة، وعن الظلام التنويري، وعن الاستنارة اللاّإنسانية، أو ما شابه ذلك، في معظم كتبه، وعندما يجزم محمد أركون بأن عقل التنوير قد انتهى، ويتقدم بمقطوعة هِجَائية مضادة للتنوير، كما في قوله: "عقل التنوير راح بدوره يتجمّد في مرحلة لاحقة، وهي عادة كل شيء ينتصر ويترسّخ. لقد استنفد هذا العقل التحريري طاقته الأخلاقية والروحية بسرعة وتحول إلى عقل توسّعي راغب في السلطة والهيمنة على الآخرين (انظر تجربة الاستعمار). كما وتحوّل إلى عقل دوغمائي، في فرنسا بشكل خاص" (قضايا في نقد العقل الديني، محمد أركون ص180)؛ أقول: عندما يتحدث مفكرون كبار بهذا المستوى من الضدّية العنادية، بل ويتحدثون وكأن "الاستعمار" مرحلة شاملة، بل ومطلقة السلبية، وعندما يربطون كل هذا بالتنوير، الذي إن اعترفوا له بالقليل، سلبوه الكثير، فلا شك أننا نحتاج إلى خطوات جادّة لنبدأ في وضع مقدمات التنوير في عالمنا العربي الذي لا يزال يعاني حالة جَفاف صحراوي على مستوى علاقته بالأفكار الإنسانية الحيّة التي تجد مَحَاضنها الأولى في الخطاب التنويري الغربي.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.