في أحد أسواق الخضار في مدينة الطائف السعودية (ارشيف)
في أحد أسواق الخضار في مدينة الطائف السعودية (ارشيف)

بقلم منصور الحاج/

تنشط منذ سنوات حملة على مواقع التواصل الإجتماعي ترفع شعار "السعودية للسعوديين" وتهدف إلى تحقيق "السعودة" بإحلال المواطنين السعوديين والسعوديات في الوظائف والأعمال التي يقوم بها الأجانب. ويرى القائمون على الحملة والمناصرون لها بأن مطالبهم ليست عنصرية وإنما هي عقلانية ومنطقية. فأبناء البلاد ـ أي بلاد ـ هم الأولى بخيرات بلادهم من الغرباء والوافدين. وللأمانة أقول بأن مطالب هذه الحملة منطقية جدا وأن ما يتخلل وسم #السعودية_للسعوديين من عبارات عنصرية ومسيئة لا يجب أن يحسب على الحملة وإنما على العنصريين أنفسهم.

وهذه الحملة، وإن كان يؤيدها عدد كبير من المواطنين، فهي لا تعبر عن رأي غالبية السعوديين ومن ضمنهم رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات الذين يفضلون الوافدين الأجانب على السعوديين لأسباب كثيرة؛ منها أن باستطاعة الوافد تسيير أموره الحياتية بالراتب الزهيد الذي يتقاضاه لأنه في الغالب يتقاسم السكن مع موظفين آخرين، وله مصروفات شهرية محدودة.

بالإضافة إلى أرباب الأعمال، فإن هناك من المواطنين من يرفضون فكرة "السعودة" ويؤيدون فكرة التنافس الحر بين المتقدمين للوظائف بحيث يختار رب العمل الشخص الذي يكون الأعلى تأهيلا وخبرة بغض النظر عن جنسيته. ويرى أصحاب هذا الرأي أن التنافس الحر يجبر المواطن على تطوير نفسه والحرص على زيادة رصيده التأهيلي بدلا من الاعتماد على جنسيته وتفاديا لترسيخ شعور المواطن بخصوصيته والنظر إلى الوافدين بدونية.

وحملة السعودية للسعوديين، وإن كانت مطالبها مشروعة كما أسلفت، إلا أنها وللأسف الشديد ترسخ فكرة خاطئة مفادها أن الأجانب هم سبب عطالة وشقاء السعوديين بسبب استحواذهم على الوظائف واحتكارهم للعديد من القطاعات والمهن.

إن من الظلم تحميل الأجانب مسؤولية تزايد نسبة العاطلين عن العمل في السعودية. فليس للأجانب من القوة أو النفوذ لتحديد ملامح السياسة الاقتصادية في البلاد ولا حتى التأثير عليها. فبدلا من أن يصب العاطلون عن العمل من السعوديين جام غضبهم على الأجانب وخاصة أولئك الذين لديهم مناصب كبيرة ويتقاضون رواتب ضخمة، عليهم مساءلة القائمين على وضع السياسة الاقتصادية في البلاد ومحاسبتهم ومطالبتهم بإجراء التغييرات المطلوبة وتبني سياسات من شأنها توفير فرص عمل للعاطلين بدلا من إحلال سعوديين في الوظائف التي يشغلها أجانب دون اعتبار لما قد يترتب على هذه السياسة من تبعات اجتماعية وأمنية على المدى البعيد.

من المآخذ الأخرى على هذه الحملة، أنها تقسم المجتمع إلى مواطنين ومقيمين دون اعتبار للمواليد وأبناء المواطنات وأبناء القبائل النازحة وغيرهم من الشرائح التي ترتبط بالبلاد ارتباطا وثيقا إلا أنهم ليسوا مواطنين. فهل يعقل مثلا توظيف الأم السعودية محل ابنتها الأجنبية؟ أم هل من المنطقي إحلال الأخ السعودي مكان شقيقه الذي ينتمي لشريحة المواليد؟

أما النقد الأبرز لهذه الحملة، فهو أنها تتخذ من الأجانب كبش فداء وشماعة، لكونهم الحلقة الأضعف في سلسلة حلقات من يتحملون المسؤولية على تزايد أعداد العاطلين عن العمل، ولعجزهم عن توجيه اللوم إلى من يدعمون ويستفيدون من عمليات المتاجرة بتأشيرات العمل من قبل المؤسسات الوهمية ورجال الأعمال والأمراء الذين اتخذوا من استقدام العاملين ومن ابتزاز المكفولين وإجبارهم على دفع مبالغ طائلة لتجديد رخص إقاماتهم وسيلة لكسب المال.

لقد توصلت من خلال متابعتي لهذه الحملة إلى أن من يقفون وراءها والقائمين عليها ليسوا سوى مطبلين للسلطات يهدفون إلى تضليل البسطاء والعامة عبر الترويج لفكرة أن الأجانب هم سبب عطالتهم وهم من يستنزفون البلاد فيقدمون أرقام التحويلات المالية للأجانب إلى الخارج ليبغض العاطلون الوافدين ويحقدون عليهم.

كما يغض القائمون على هذه الحملة الطرف تماما عن السبب الأساسي وراء تزايد نسبة العاطلين عن العمل وعن اللصوص الحقيقيين الذين يسرقون خيرات البلاد ومقدراتها بدون حسيب أو رقيب، المتمثل في السلطة السياسية التي فشلت فشلا ذريعا في تطبيق السعودة وفي تحويل المملكة إلى دولة حديثة ومنتجة تقرأ المستقبل وتخطط لاستيعاب الخريجين في سوق العمل بكل سلاسة وانسياب.

وبحسب ما ذكره الأستاذ كمال عبد القادر في مشاركته في حلقة تناولت حملة "السعودية للسعوديين" على قناة "روتانا" خليجية، فإن معوقات السعودة تتمثل في ارتفاع تكلفة العامل السعودي مقارنة بغير السعودي، وأن كل قرارات السعودة تصدر من طرف واحد فقط دون الرجوع إلى الطرف الآخر، وضعف وعدم دقة بيانات سوق العمل، مشيرا إلى أن أفضل طريقة للسعودة هي تأهيل المواطن في جميع المجالات. ولهذه الأسباب السابقة فشلت العديد من المحاولات لسعودة قطاعات بيع وصيانة الهواتف النقالة وسيارات الأجرة ومحلات بيع الخضار وأسواق الأسماك وتجارة المواشي.

أتفهم رغبة القائمين على الحملة في "سعودة" الوظائف والتخلص من سيطرة الوافدين على الكثير من الوظائف، لكن ما لا أتفهمه هو صمتهم عما هو أهم من ذلك، والمتمثل في فساد المسؤولين وخاصة العائلة الحاكمة التي يعلم القاصي والداني أن المليارات التي يكتنزونها ليست من كسب أيديهم وإنما هي ثروات ومقدرات البلاد يتقاسمونها فيما بينهم وكأنها ملك خاص بهم وحدهم وأن الشعب لا حق ل فيه، ولذلك فهم "يتكرمون" عليه حين يمنحونه علاوات أو مساعدات أو حوافز أو هبات وهدايا.

نعم، يجب أن تكون السعودية للسعوديين ولا يتحقق ذلك بالتخلص من الأجانب وإنما عندما يتمكن الشعب السعودي من تقرير مصيره وحكم نفسه بنفسه وتحرير البلاد من سيطرة عائلة واحدة تملك السلطة وتسيطر على مقدرات البلاد بدون حسيب أو رقيب. نعم يجب أن تكون السعودية للسعوديين ليس بطرد الوافدين وإنما بإزالة "الشبوك" عن الأراضي التي يملكها الأمراء بغير وجه حق في الوقت الذي لا يجد فيه المواطن قطعة أرض ليبني عليها بيتا يأويه.

نعم يجب أن تكون السعودية للسعوديين بحيث يكون لهم الحق في اختيار نظام الحكم الذي يرتضونه وإقامة دولة يحكمها قانون يتم تطبيقه على الجميع وبرلمان منتخب ونظام قضائي نزيه ومؤسسات عدلية وسلطة سياسية تخضع للمحاسبة والمساءلة. نعم يجب أن تكون السعودية للسعوديين بحيث يتمتع المواطنون بالحقوق الأساسية والحريات التي كفلتها الشرائع والقوانين الدولية كحرية التعبير والاعتقاد والتجمع وتأسيس منظمات المجتمع المدني.

"عيناك ترى الفيل وأنت تسدد الطعنات إلى ظله"، مثل سوداني يقال لمن يتهرب من التصدي للمشكلة الأساسية ويركز جهده على المشاكل الفرعية. هذا هو لسان حال القائمين على حملة "السعودية للسعوديين" الذين يوجهون سهامهم وحرابهم على الأجانب "ظل الفيل" في الوقت الذي يتجاهلون فيه "الفيل" المتمثل في آل سعود وسياساتهم الفاشلة التي أوصلت البلاد والعباد إلى هذا الواقع المزري. فمهلا يا دعاة "السعودية"، آل سعود هم سبب شقائكم وليس الأجانب.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.