بقلم بابكر فيصل بابكر/
في حوار أجرته معه وكالة أنباء "الأناضول" حول التقارب الأخير بين السودان وتركيا، قال رئيس لجنة الإعلام في البرلمان السوداني، الطيب مصطفى، إنهم يتوقون إلى إزالة الحدود بين الدول الإسلامية لتعود الخلافة العثمانية. وأوضح أن تلك الحدود صنعتها اتفاقية "سايكس ـ بيكو" لتمزيق العالم الإسلامي الذي قال إنه لم يتفتت إلا بعد سقوط الدولة العثمانية.
الحديث أعلاه، يعبر عن رؤية العديد من الجماعات داخل تيار الإسلام السياسي، ومنها جماعة "الإخوان المسلمين" التي ينتمي إليها رئيس لجنة الإعلام في برلمان السودان، وهي رؤية عاطفية غير عقلانية لا تستند إلى حقائق تاريخية بل تسعى لإستعادة ماض متوهم عن أمجاد الخلافة وتآمر الدول الغربية عليها.
فالخلافة الإسلامية لم تكن سوى شكلا من أشكال الحكم التاريخي الذي ساد في العصور الوسطى. وعدا شذرات مشرقة في حكم الخلفاء الراشدين، وخلافة عمر بن عبد العزيز، والمهتدي العباسي، كان تاريخ الخلافة الإسلامية هو تاريخ الإستبداد والملك العضود والدماء والدموع الذي لم يعرف أساليبا للتداول على الحكم سوى أسلوبي الغلبة والتوريث حتى إنتهائه في عام 1924.
ومن ناحية أخرى، فإن العديد من الشعوب التي خضعت لسيطرة تلك الخلافة لم تر فيها سوى حكم غزاة مستعمرين جاءوا لنهب ثروات بلادهم وسرقة مواردها. ومن بين هذه الشعوب، الشعب السوداني الذي قاوم قهر الغزاة الأتراك ببسالة وشراسة حتى استطاع دحرهم وطردهم من البلاد بواسطة الثورة المهدية في عام 1885.
لم يكن غرض السيطرة التركية على السودان هو نشر الإسلام، بل كان هدفها الواضح والمعلن هو جلب العبيد والذهب. إذ برعت الإدارة في إرسال الغزوات للحصول على الرقيق وأصبحت لتجارة العبيد أسواقا مزدهرة، وكأي قوة استعمارية دأب الأتراك على نهب ثروات السودان الحيوانية من الجمال والأبقار وريش النعام والعاج إضافة للمحاصيل الزراعية، وأرهقوا كاهل السكان بالضرائب الباهظة التي يتم إرسالها لمصر وللباب العالي.
إن تصدي السودانيين للحكم التركي لم يأت بتحريض من القوى الغربية كما يدعى أصحاب نظرية المؤامرة، بل جاء نتيجة للظلم الشديد الذي وقع عليهم من الأتراك. وهذا هو الحال في العديد من الدول العربية التي خضعت لسيطرة العثمانيين، وبالتالي فإن رفض الخلافة كان نابعا من الداخل، ولم يفرض من الخارج.
إقرأ للكاتب أيضا: شيوخ الوهابية وتظاهرات السودان
إن عودة الخلافة بشكلها التاريخي المعروف وكما يتمناها البرلماني السوداني غير ممكنة من الناحيتين الفكرية والعملية الواقعية. فمن الناحية الأولى، فهى لا تتضمن أسلوبا معينا لإختيار الحاكم كما أنها لا تشتمل على نظام معروف يحدد سلطات ذلك الحاكم وصلاحياته ومدة بقائه في السلطة وآلية إتخاذ القرار في الدولة وعلاقة المركز بالأطراف وغير ذلك من الأمور التي يجب توافرها في أنظمة الحكم.
ويشهد التاريخ الإسلامي أن اختيار الخلفاء الأربعة الأوائل تم بطرق مختلفة، وما أن تولى معاوية بن أبي سفيان الحكم حتى تحولت الخلافة إلى ملك عضوض سادت فيها الوراثة والغلبة إلى أن انتهت في عام 1924. وفي قصة تولية يزيد بن معاوية بن أبي سفيان التي يوردها صاحب "العقد الفريد" دليل على ما نقول: "لما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد كتب في سنة خمس وخمسين إلى سائر الأمصار أن يَفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم، فجلس في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه، وقد تقدم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد، فتكلم جماعة منهم، ثم قام يزيد بن المقفع فقال أمير المؤمنين هذا "وأشار إلى معاوية " فإن هلك فهذا" وأشار إلى يزيد "فمن أبى فهذا" وأشار إلى سيفه".
أما من جهة النظام السياسي فإننا ـ كما يقول قاسم أمين ـ مهما دققنا البحث في تاريخ الخلافة الإسلامية لا نجد فيها ما يستحق أن يسمى نظاما، حيث أن شكل الحكومة في مختلف صورها كان عبارة عن خليفة أو سلطان غير مقيد، يحكم موظفين غير مقيدين.
جماعات الإسلام السياسي التي تنادي بعودة الخلافة لا تملك تصورات نظرية لطبيعة النظام السياسي الذي ينشدونه في ظلها، ولا لكيفية إختيار الحاكم أو تداول السلطة. فتكتفي هذه الجماعات، بإطلاق شعارات عامة خالية من المضامين، وهو الأمر الذي تكشف من خلال تجربة حكم الإخوان المسلمين في السودان، والتي انتهت إلى دولة إستبداد شمولي تحكم بقوة الأجهزة الأمنية والعسكرية.
ومن الناحية العملية، فإن عودة الخلافة غير ممكنة نتيجة ظهور المفهوم الحديث للدولة القومية، حيث لم يعد الدين هو العامل الوحيد والأقوى لتوحيد الدول، بل أصبحت الهويات القائمة على التاريخ المشترك واللغة والجغرافيا والثقافة تلعب الأدوار الأكبر في توحيد الشعوب.
ويجدر بنا في هذا الإطار الإشارة لتجربة إنفصال دولة باكستان عن الهند في عام 1947 حيث كان الدين هو العامل الأقوى الذي بنيت عليه عملية الانفصال، ومع ذلك فإن الأولى انقسمت بعد حين إلى دولتين: باكستان وبنجلاديش، على الرغم من أن سكان البلدين يدينون بالإسلام، إلا أن خلافات الثقافة المحليه والعادات المتوارثة والتباين القبلي الصارخ غلبت في خاتمة المطاف.
وليس ببعيد عن الأذهان كذلك، ما حدث بين مصر وسورية عندما اتحدتا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، فلم تدم طويلاً وانتهت هذه الوحدة عام 1961، وكان من أقوى أسباب انهيارها شعور السوريين بإستعلاء الجانب المصري وسيطرته على مقاليد الأمور وبالتالي بدت الوحدة وكأنها إستعمار جديد لبلادهم.
وبافتراض أن دعاة رجوع الخلافة العثمانية نجحوا في استعادتها مرة أخرى، وهو أمر بعيد المنال، فإنها لا شك ستعود بذات الطبيعة الإستبدادية السابقة، ذلك لأن طيفا واسعا من جماعات الإسلام السياسي لا يؤمن بالديموقراطية من حيث المبدأ ويعتبرها كفرا صريحا. ويتعامل معها البعض الآخر، مثل الإخوان المسلمين، بعدم مبدئية، فهم يدعون للديموقراطية عندما تخدم مصالحهم بينما يرفضونها عندما تتعارض مع تلك المصالح.
وغني عن القول، أننا عندما نتحدث عن الديموقراطية فإنما نعني النظام الذي يعطي الشعب الحق في اختيار حكامه ومحاسبتهم، ويحول بين الناس الاستبداد المستلزم إهدار كرامتهم، وتقام فيه الرقابة على الحاكم ويقع فيه التناوب السلمي على الحكم عن طريق الأصوات وثقة الناس، وعن طريق الإقناع بالبرامج المقدمة.
ــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)