يرتديان زي عثماني خلال المهرجان الثقافي "إثنوسبورتس" في اسطنبول في أيار/مايو الماضي (أرشيف)
يرتديان زي عثماني خلال المهرجان الثقافي "إثنوسبورتس" في اسطنبول في أيار/مايو الماضي (أرشيف)

بقلم بابكر فيصل بابكر/

في حوار أجرته معه وكالة أنباء "الأناضول" حول التقارب الأخير بين السودان وتركيا، قال رئيس لجنة الإعلام في البرلمان السوداني، الطيب مصطفى، إنهم يتوقون إلى إزالة الحدود بين الدول الإسلامية لتعود الخلافة العثمانية. وأوضح أن تلك الحدود صنعتها اتفاقية "سايكس ـ بيكو" لتمزيق العالم الإسلامي الذي قال إنه لم يتفتت إلا بعد سقوط الدولة العثمانية.

الحديث أعلاه، يعبر عن رؤية العديد من الجماعات داخل تيار الإسلام السياسي، ومنها جماعة "الإخوان المسلمين" التي ينتمي إليها رئيس لجنة الإعلام في برلمان السودان، وهي رؤية عاطفية غير عقلانية لا تستند إلى حقائق تاريخية بل تسعى لإستعادة ماض متوهم عن أمجاد الخلافة وتآمر الدول الغربية عليها.

​فالخلافة الإسلامية لم تكن سوى شكلا من أشكال الحكم التاريخي الذي ساد في العصور الوسطى. وعدا شذرات مشرقة في حكم الخلفاء الراشدين، وخلافة عمر بن عبد العزيز، والمهتدي العباسي، كان تاريخ الخلافة الإسلامية هو تاريخ الإستبداد والملك العضود والدماء والدموع الذي لم يعرف أساليبا للتداول على الحكم سوى أسلوبي الغلبة والتوريث حتى إنتهائه في عام 1924.

ومن ناحية أخرى، فإن العديد من الشعوب التي خضعت لسيطرة تلك الخلافة لم تر فيها سوى حكم غزاة مستعمرين جاءوا لنهب ثروات بلادهم وسرقة مواردها. ومن بين هذه الشعوب، الشعب السوداني الذي قاوم قهر الغزاة الأتراك ببسالة وشراسة حتى استطاع دحرهم وطردهم من البلاد بواسطة الثورة المهدية في عام 1885.

إن تصدي السودانيين للحكم التركي جاء نتيجة للظلم الشديد الذي وقع عليهم من الأتراك

لم يكن غرض السيطرة التركية على السودان هو نشر الإسلام، بل كان هدفها الواضح والمعلن هو جلب العبيد والذهب. إذ برعت الإدارة في إرسال الغزوات للحصول على الرقيق وأصبحت لتجارة العبيد أسواقا مزدهرة، وكأي قوة استعمارية دأب الأتراك على نهب ثروات السودان الحيوانية من الجمال والأبقار وريش النعام والعاج إضافة للمحاصيل الزراعية، وأرهقوا كاهل السكان بالضرائب الباهظة التي يتم إرسالها لمصر وللباب العالي.

إن تصدي السودانيين للحكم التركي لم يأت بتحريض من القوى الغربية كما يدعى أصحاب نظرية المؤامرة، بل جاء نتيجة للظلم الشديد الذي وقع عليهم من الأتراك. وهذا هو الحال في العديد من الدول العربية التي خضعت لسيطرة العثمانيين، وبالتالي فإن رفض الخلافة كان نابعا من الداخل، ولم يفرض من الخارج.

إقرأ للكاتب أيضا: شيوخ الوهابية وتظاهرات السودان

إن عودة الخلافة بشكلها التاريخي المعروف وكما يتمناها البرلماني السوداني غير ممكنة من الناحيتين الفكرية والعملية الواقعية. فمن الناحية الأولى، فهى لا تتضمن أسلوبا معينا لإختيار الحاكم كما أنها لا تشتمل على نظام معروف يحدد سلطات ذلك الحاكم وصلاحياته ومدة بقائه في السلطة وآلية إتخاذ القرار في الدولة وعلاقة المركز بالأطراف وغير ذلك من الأمور التي يجب توافرها في أنظمة الحكم.

ويشهد التاريخ الإسلامي أن اختيار الخلفاء الأربعة الأوائل تم بطرق مختلفة، وما أن تولى معاوية بن أبي سفيان الحكم حتى تحولت الخلافة إلى ملك عضوض سادت فيها الوراثة والغلبة إلى أن انتهت في عام 1924. وفي قصة تولية يزيد بن معاوية بن أبي سفيان التي يوردها صاحب "العقد الفريد" دليل على ما نقول: "لما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد كتب في سنة خمس وخمسين إلى سائر الأمصار أن يَفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم، فجلس في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه، وقد تقدم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد، فتكلم جماعة منهم، ثم قام يزيد بن المقفع فقال أمير المؤمنين هذا "وأشار إلى معاوية " فإن هلك فهذا" وأشار إلى يزيد "فمن أبى فهذا" وأشار إلى سيفه".

أما من جهة النظام السياسي فإننا ـ كما يقول قاسم أمين ـ مهما دققنا البحث في تاريخ الخلافة الإسلامية لا نجد فيها ما يستحق أن يسمى نظاما، حيث أن شكل الحكومة في مختلف صورها كان عبارة عن خليفة أو سلطان غير مقيد، يحكم موظفين غير مقيدين.

جماعات الإسلام السياسي التي تنادي بعودة الخلافة لا تملك تصورات نظرية لطبيعة النظام السياسي الذي ينشدونه في ظلها، ولا لكيفية إختيار الحاكم أو تداول السلطة. فتكتفي هذه الجماعات، بإطلاق شعارات عامة خالية من المضامين، وهو الأمر الذي تكشف من خلال تجربة حكم الإخوان المسلمين في السودان، والتي انتهت إلى دولة إستبداد شمولي تحكم بقوة الأجهزة الأمنية والعسكرية.

ومن الناحية العملية، فإن عودة الخلافة غير ممكنة نتيجة ظهور المفهوم الحديث للدولة القومية، حيث لم يعد الدين هو العامل الوحيد والأقوى لتوحيد الدول، بل أصبحت الهويات القائمة على التاريخ المشترك واللغة والجغرافيا والثقافة تلعب الأدوار الأكبر في توحيد الشعوب.

طيفا واسعا من جماعات الإسلام السياسي لا يؤمن بالديموقراطية من حيث المبدأ ويعتبرها كفرا صريحا

​​ويجدر بنا في هذا الإطار الإشارة لتجربة إنفصال دولة باكستان عن الهند في عام 1947 حيث كان الدين هو العامل الأقوى الذي بنيت عليه عملية الانفصال، ومع ذلك فإن الأولى انقسمت بعد حين إلى دولتين: باكستان وبنجلاديش، على الرغم من أن سكان البلدين يدينون بالإسلام، إلا أن خلافات الثقافة المحليه والعادات المتوارثة والتباين القبلي الصارخ غلبت في خاتمة المطاف.

​​وليس ببعيد عن الأذهان كذلك، ما حدث بين مصر وسورية عندما اتحدتا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، فلم تدم طويلاً وانتهت هذه الوحدة عام 1961، وكان من أقوى أسباب انهيارها شعور السوريين بإستعلاء الجانب المصري وسيطرته على مقاليد الأمور وبالتالي بدت الوحدة وكأنها إستعمار جديد لبلادهم.

وبافتراض أن دعاة رجوع الخلافة العثمانية نجحوا في استعادتها مرة أخرى، وهو أمر بعيد المنال، فإنها لا شك ستعود بذات الطبيعة الإستبدادية السابقة، ذلك لأن طيفا واسعا من جماعات الإسلام السياسي لا يؤمن بالديموقراطية من حيث المبدأ ويعتبرها كفرا صريحا. ويتعامل معها البعض الآخر، مثل الإخوان المسلمين، بعدم مبدئية، فهم يدعون للديموقراطية عندما تخدم مصالحهم بينما يرفضونها عندما تتعارض مع تلك المصالح.

وغني عن القول، أننا عندما نتحدث عن الديموقراطية فإنما نعني النظام الذي يعطي الشعب الحق في اختيار حكامه ومحاسبتهم، ويحول بين الناس الاستبداد المستلزم إهدار كرامتهم، وتقام فيه الرقابة على الحاكم ويقع فيه التناوب السلمي على الحكم عن طريق الأصوات وثقة الناس، وعن طريق الإقناع بالبرامج المقدمة.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.