دبابة تركية شمال شرق عفرين (رويترز)

بقلم عبد الحفيظ شرف/

أفلت بشار الأسد من العقاب بعد سبعة أعوام من الحرب الدائرة في سورية، وبعد ملايين النازحين ومئات آلاف القتلى ومئات آلاف المعتقلين والمغيبين. أفلت، رغم تجاوزه الخطوط الحمراء الكثيرة التي أطلقتها تركيا والإدارة الأميركية السابقة.

رغم ذلك، بدأت التحركات الإقليمية تنحى طريقا آخر بعيدا عن الأسد الذي يمثل لب المشكلة ورأس حربة النزاع الدائر في سورية. تحركت تركيا بدباباتها وجنودها إلى الحدود الجنوبية بشكل مكثف، وأطلقت عملية "غصن الزيتون" ضد "قوات الحماية الكردية" المدعومة أميركيا في عفرين بناء على مخاوف أمن قومي تركي.

ولهذه المخاوف ما يبررها، بحسب تصريحات البيت الأبيض، الذي طلب من تركيا عدم توسيع العمليات العسكرية، بل عرض تأسيس مناطق آمنة لتبديد مخاوف الأتراك. روسيا تدعم التحرك التركي لإضعاف الأكراد الذين يصنفون كحليف رئيسي للولايات المتحدة ولتقنع الأتراك بصفقة إعادة مدينة إدلب إلى حضن النظام السوري. بدورها، تؤيد إيران الموقف التركي في هذه العملية لوجود مخاوف مشابهة من "البعبع الكردي"، الذي تعتبره إيران مشكلة أمن قومي، كما تراه تركيا.

ومن خلال هذا التشابك العنكبوتي المعقد، سأنطلق إلى تحليل ما يجري وما هي مخرجات هذه المعركة؟ وهل ستكتفي تركيا بعفرين أم أنها تريد توسيع عملياتها العسكرية؟

إقرأ للكاتب أيضا: الفرق بين بيكي كيبل ومشايخنا

بداية، أعتقد أن تركيا اختارت الفعل على الأرض وتغيير الواقع الجغرافي بعيدا عن التحركات الدبلوماسية مع الحلفاء، وبالذات الحليف الأميركي الذي يدعم ويسلح الجهات الكردية، وهذا قد يصنع بيئة شك وعدم ثقة بين الحلفاء. لكن البيت الأبيض تفهم مخاوف تركيا التي تعتبر قوات الحماية الكردية وحزب الاتحاد الديموقراطي جزءا لا يتجزأ من قوات حزب العمال الكردستاني (البي كي كي)، ووعد بوقفه لتسليح الأكراد.

إلا أن هذه الخطوة الأميركية لم توقف التحركات العسكرية التركية، بل شجعت الأتـراك على اتخاذ مواقف أكثر صرامة. إذ أعلن أردوغان في خطابه الأخير نيته توسيع العمليات العسكرية لوصل مدينتي عفرين ومنبج وصنع ما يسمى بالمنطقة الآمنة على الحدود الجنوبية لبلاده.

وذكر محللون أتراك مقربون من السلطة أن تركيا قد تذهب أبعد من ذلك لتصل إلى شرق نهر الفرات والحدود العراقية لتضمن عدم تشكيل كيان كردي في شمال شرق سورية.

تصب العملية التركية في مصلحة تركيا ثم إيران وروسيا والنظام السوري، ولن تكون في مصلحة المعارضة السورية مطلقا

​​هذه التحركات، برأيي، خدمة مجانية يقدمها أردوغان لبشار الأسد. فقوات سورية الديموقراطية هي الجهة الوحيدة المنظمة والمسلحة بشكل جيد والتي تمثل قوة حقيقية على الأرض منافسة لنظام بشار الأسد، وتسيطر على ما يقارب 30 في المئة من الأراضي السورية بعد أن حررتها من احتلال داعش.

إضعاف هذه القوات هو بمثابة تقوية للأسد بشكل غير مباشر. ودفعت التحركات التركية قوات سورية الديموقراطية، ممثلة بالإدارة الذاتية في عفرين، إلى طلب التدخل العسكري من النظام السوري لحماية عفرين من الأتراك.

قد يؤدي هذا الأمر إلى تحالف خفي بين قوات سورية الديموقراطية، المدعومة أميركيا، ونظام الأسد لتحقيق مصالح مشتركة قريبة المدى.

لو حصل هذا، فستكون تركيا عدوا مشتركا للأسد وللأكراد المدعومين أميركيا، وهذا سيؤدي إلى اقتراب الأسد من المجتمع الدولي تدريجيا. لكن، على الأكراد أن يفهموا كذلك أن الأسد ونظامه مرفوضان أميركيا ودوليا وأن أي تحالف معه خطوة غير محسوبة قد تغير التحالفات على الأرض السورية، بل قد تغير مفهوم الدعم الدولي للقوات الكردية.

إقرأ للكاتب أيضا: هل يستحق الشعب السوري معارضة أفضل؟

ردمت العملية العسكرية الهوة وقربت وجهات النظر التركية ـ الروسية ـ الإيرانية. تسير تركيا باتجاه هذا الثالوث بعيدا عن الحليف الأميركي، من دون أن يساعد هذا الثالوث، على الحل النهائي في سورية.

على العكس من ذلك، قد يزيد هذا الثالوث قوة الأسد، خصوصا، إذا قامت الإدارة الذاتية الكردية بتسليم عفرين للنظام كما هددت سابقا. وتجدر الإشارة إلى أن روسيا تمنع هذا التسليم حاليا، لأنها لا تريد أي اشتباك بين تركيا وقوات النظام السوري.

من جهة أخرى، يسعى الأسد حاليا لتسهيل مرور قوات سورية الديموقراطية المتواجدة شرق الفرات من خلال الأراضي التي يسيطر عليها لتصل إلى عفرين، بحيث يصب الزيت على النار، وتصبح المعركة أكثر شراسة ويتكبد الأكراد والأتراك خسائر أكبر.

عند ذلك، سيغني بشار الأسد فرحا بل قد يعقد صفقة مع تركيا من خلال روسيا لتسلم إدلب وتسليم عفرين، وعندها سيضرب الأسد ثلاثة عصافير بحجر واحد: استعادة إدلب وإضعاف قوات سورية الديموقراطية والاستفادة من استنزاف الأتراك في معارك على الأرض السورية.

على المعارضة والجيش الحر، صناعة توازن يحقق مصلحة السوريين والشعب السوري الثائر

عملية "غصن الزيتون" في عفرين وما بعدها ستعقد الموقف السوري أكثر وأكثر، وسينتج عنها تفاهمات جديدة، وستغير الكثير من التحالفات، خصوصاً، إذا ما توجه أردوغان إلى ما بعد عفرين في منبج ومناطق شرق الفرات التي تتواجد فيها القوات الأميركية.

التشابك غريب من نوعه. المصالح والتحالفات على الأرض السورية معقدة للغاية. لم ينظر أردوغان إلى القوى المتصارعة على الأرض، بل إلى مصلحة تركيا دون غيرها. لكن على المعارضة السورية، وما يعرف بالجيش الحر، أن ينظروا إلى مصلحة سورية والسوريين وألا يكونوا مجرد أداة لتنفيذ رغبات تركية بحتة. على المعارضة والجيش الحر صناعة توازن يحقق مصلحة السوريين والشعب السوري الثائر، الذي دفع ثمنا غاليا جدا.

تصب العملية التركية في مصلحة تركيا ثم إيران وروسيا والنظام السوري، ولن تكون في مصلحة المعارضة السورية مطلقا، وهذا تغير كبير في السياسة التركية. فهل ستستمر تركيا في هذا الطريق؟ أم أنها ستعود للتفاهم مع حلفائها في "الناتو" ومع الحليف الأميركي تحديدا؟

ـــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.