"الموت للديكتاتور" شعار مكتوب بالفارسية على أحد الجدران في طهران
"الموت للديكتاتور" شعار مكتوب بالفارسية على أحد الجدران في طهران

بقلم حسين عبد الحسين/

الاستبداد في الحكم واحد، وإن تعددت أشكال الطغاة وأسماؤهم. والخطوات التي يتخذها الطغاة متشابهة، بل متطابقة، وهي تبدأ من إعلان الزعيم صلابته، وتحمله سنوات ظلم من سبقه، وربما السجن. زعيمنا ذو شكيمة، أبيّ، لا يخاف ولا ينقاد، ولا يستمع إلا لصوت الضمير. يستولي الزعيم على الحكم، إن في انقلاب أو في انتخابات، ويعلن أن وصوله السلطة لحظة تحول، من ماض بائس إلى مستقبل زاهر، ومن حكم المؤسسات إلى حكم الجماهير.

القصص التي يؤلفها الطغاة متشابهة. فلاديمير بوتين أنقذ روسيا من مطامع الغرب وفساد سلفه بوريس يلتسين، عميل الأميركيين، وأعاد روسيا قوة عالمية عظمى تتحدى أميركا، وروح الله الخميني وخلفه علي خامنئي أنقذا إيران من رضا بهلوي، الشاه الفاسد ورجل إسرائيل. أما ميشال عون، فأعاد لمسيحيي لبنان حقوقهم من مسلمين ظالمين يتحالف معهم.

والزعيم ينقذ الشعب، فهو شخص بحجم أمة، والأمة هذه دائما عظيمة، ما يجعل قائدها عظيما، وتتماهى عظمة الاثنين، فيصبح أي انتقاد للزعيم انتقاصا من عظمة الأمة الإيرانية، أو تآمرا على أمة صدام حسين العربية المجيدة، أو تحايلا على شعب عون اللبناني العظيم، فالشعوب العظيمة لا يليق بها قادة من البشر، بل هي أمة عظيمة تتطلب قادة عظماء لا تليق بهم إلا العبادة والتبجيل.

وبعد إعلان عظمتهم وعظمة أمتهم على باقي الأمم والشعوب، يلتفت الطغاة إلى أعداء الداخل من ضعاف النفوس، ممن يبيعون ضمائرهم بقليل من المال للأمم الأخرى. هؤلاء مثل يوضاس الذي باع المسيح، أقل ما يليق بهم هو أن يخنقوا أنفسهم، وهم يندر ألا يقوموا بذلك فعلا، فينتحرون، أحيانا بطلقين ناريين.

إقرأ للكاتب أيضا: شعب لبنان العظيم ودولته البائسة

ويمضي الزعيم العظيم في تصفية أعداء الأمة وتأكيد صفائها من الخونة، فتتسع اللائحة لتشمل القريبين كما البعيدين، وتمضي الثورة في أكل أبنائها، بحجة القضاء على "الدولة العميقة". ويتم تفكيك مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية، واستبدال رجال الدولة بمخبري الصف الثالث والرابع، في عملية تآمر متواصلة ينشط فيها كتاب التقارير وأحدهم ضد الآخر، وتقوم "محاكم الشعب" مثل التي أنشأها العراقي الراحل عبد الكريم قاسم، فتحول "قصر الزهور" الملكي إلى معتقل "قصر النهاية"، الذي لاقى فيه آلاف العراقيين حتفهم تحت التعذيب.

وفي ربوع الأمة العظيمة، تتحول "مكافحة الفساد" أو "محاربة الإرهاب" إلى بركة دماء ترقى إلى مصافي جرائم حرب. أما الظريف، فهو أن الفساد يتفشى في هذه الدول أكثر كلما أعلن زعماؤها تجديد حملاتهم ضد الفساد.

وفي غابر الزمان، سعى الطغاة إلى تحقيق نهضة اقتصادية لتبرير استبدادهم، فالسلطان عبد الحميد الثاني حاز لقب "المستبد المستنير" بسبب عنايته بالاقتصاد العثماني، ومن بقايا نهضته الأسواق التي تحمل اسمه في مدن العرب، مثل سوقي الحميدية في دمشق والفلوجة.

اليوم كذلك، يسعى الطغاة إلى نهضة اقتصادية لتبرير استبدادهم. لا يهم إن كانت النهضة تعيش على العائدات النفطية، مثل روسيا، أو على تحويل الصين إلى مصنع كبير يعيش فيه العمال في شقاء وأعضاء "المكتب السياسي" في ترف الشقق الفاخرة في لندن ونيويورك.

إقرأ للكاتب أيضا: مرشد المرشدين والاستعمار الإيراني للعرب

لا يهم أيضا، إن كانت عائدات النفط تتوزع على الشعب، أم تقتصر على الطغمة الحاكمة، مثل "مؤسسة علي خامنئي"، و"الحرس الثوري" الإيراني، والميليشيات الموالية لطهران مثل "حزب الله" اللبناني. هؤلاء يبددون ثروات الأمة لفرض نفوذ إقليمي يغذي شبق الوطنية الإيرانية، من دون أن يطعم الإيرانيين.

ولا يهم إن كان اللبنانيون يغرقون في النفايات المسببة للأمراض السرطانية، ويتشاتمون في الوقت نفسه بالنيابة عن حكامهم، الذين يتسابقون لتناهش موارد البلاد الشحيحة. كيف ترضى أي لبنانية أن تعيش بين النفايات، وبدون آفاق اقتصادية، وتعلن الوقت نفسه ولاءها المطلق لنفس الزعماء الذي يسببون أزمات النفايات وسوء الحكم؟ في دنيا العرب، القبلية المختبئة بالدين هي أفيون الشعوب.

وفي دنيا العرب أيضا، تبلغ العبثية ذروتها يوم يصيب الملل زعماء النفط وأبنائهم بسبب الثراء الفاحش، فيتحولون إلى وحوش يطلقون النار داخل ملاعب كرة القدم الأوروبية، مثل في حال أحد أبناء معمر القذافي، الذي ودع الليبيين بالقول: "يا جرذان، الثورة الليبية أعطتكم مكيفات هواء".

أما أظرف ما في الاستبداد فهو إصرار الطغاة على الحكم باسم الشعب نفسه الذي يدوسونه تحت أقدام استخباراتهم. لا نعرف سبب إصرار المستبدين على إجراء انتخابات شعبية، هي دائما شكلية محسومة النتائج. المنافسون الجديون فيها أعداء الأمة، وهم إما انتحروا، أو بان فسادهم فحاكمهم أقرانهم من الفاسدين الآخرين. أما "مجلس الشعب" أو "مجلس الأمة"، فعضويته مكافأة لصغار المخبرين، المتزلفين، الذين يعشقون تقبيل أحذية العسكر والتصفيق، وقوفا، للزعيم الخالد.

استبداد الشعب العظيم على الشعب العظيم من أجل الشعب العظيم. استبداد لن يزول عن وجه بسيطة الأرض، في تحوير لمقولة أعظم رؤساء الديموقراطية الأميركية إبراهام لينكن، الذي انتخبت أميركا منذ حكمه 28 رئيسا متعاقبا، فيما عاشت روسيا في ظل 12 زعيما فقط منذ عام 1855، وهي أرقام تعكس ببساطة أي من الحكومات عظيمة، وأي منها ورقة توت يستخدمها الطغاة لإخفاء استبدادهم.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.