إعادة إعمار أحد مباني الرقة بعد تحرير المدينة من داعش (أ ف ب)
إعادة إعمار أحد مباني الرقة بعد تحرير المدينة من داعش (أ ف ب)

بقلم ماثيو ليفيت/

يواجه تنظيم "الدولة الإسلامية" هزائم ميدانية في العراق وسورية، وقد خسر ما يزيد على 90% من مداخيله التي اكتسبها منذ عام 2015، حسب تقرير جديد للأمم المتحدة. وقد تردى وضع التنظيم إلى حد تبني هجمات إرهابية لا علاقة له بتنفيذها. وتوقف تنظيم داعش عن إصدار بعض مجلاته الإلكترونية التي ساهمت بشهرته عالميا. ولكن على الرغم من هذه النكسات، خلص الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره الأخير عن التهديد الذي يشكله داعش للسلام والأمن الدوليين، إلى أن داعش "لا يزال يشكل تهديدا كبيرا ومتناميا في جميع أنحاء العالم".

ووفقا للتقرير، "يتخذ (داعش) حاليا هيئة شبكة عالمية تتسم بتراتبية أفقية وسيطرة عملياتية أقل على الجماعات المرتبطة به". عمليا يعني هذا أن داعش سيعتمد أكثر على أفراد ومجموعات صغيرة لتنفيذ هجمات، مستخدما وسائل التواصل الاجتماعي، منصات التواصل المشفرة والإنترنت الأسود للتواصل مع أتباعه والجماعات المرتبطة به في المنطقة.

سيصبح "المسافرون المحبطون" ـ أي الأفراد الذين فشلوا في السفر إلى أماكن النزاع، لكنهم ما زالوا متطرفين ـ والمقاتلون الأجانب العائدون إلى بلادهم وأولئك الذين انتقلوا إلى مواقع قتالية جديدة، ذا أهمية كبيرة لداعش كلما تناقص مخزونه من المجندين. في الوقت ذاته، بات أعضاء في تنظيمي داعش والقاعدة مستعدين لدعم هجمات بعضهم البعض، ما يدل على وجود مستوى من التقارب بين التنظيمين الإرهابيين، قد يتزايد مع الوقت.

ينقل تنظيم داعش الأموال في الشرق الأوسط عبر نظام "الحوالة" واستخدام أشخاص لنقل الأموال النقدية

​​لكن إدامة العلاقات مع الجماعات المرتبطة بالتنظيم إقليميا ودعم الأتباع والمتعاطفين عالميا، يحتاجان إلى أموال. وعلى الرغم من خسارة مداخيل حقول النفط، يستمر داعش بإيجاد طرق لتمويل أنشطته الإرهابية.

وتفيد تقارير صادرة عن دول أعضاء في الأمم المتحدة بأن تنظيم داعش ينقل الأموال في الشرق الأوسط عبر نظام "الحوالة" واستخدام أشخاص لنقل الأموال النقدية، وهو النظام الذي كان معتمدا قبل سقوط "الخلافة". أما خارج سورية والعراق، في ليبيا مثلا، يستمر داعش بجمع الأموال عن طريق الابتزاز ونقاط التفتيش والضرائب التي يفرضها على شبكات التهريب والاتجار بالبشر. ويستفيد التنظيم من أعمال مشروعة يستخدمها كواجهة، وكذلك من أفراد "نظيفين" ظاهرا، قادرين على التعامل عبر النظام المالي الرسمي. ومع بدء جهود إعادة الإعمار في الأراضي المحررة، يخشى المسؤولون أن يتمكن تنظيم داعش من الاحتيال على جهود إعادة الإعمار والاستثمار في الاقتصاد المحلي، خصوصا عبر شركات - واجهات تعمل في قطاع البناء وبعض الصناعات الأخرى.

إقرأ للكاتب أيضا: غلق الباب في وجه داعش

ولا يزال تنظيم داعش يملك إمكانية الحصول على تمويل كاف لدعم عملياته الإرهابية في الشرق الأوسط وخارجه، أبعد من حدود سورية والعراق. ففي اليمن، استغل التنظيم تردي الأوضاع الأمنية لـ"التخطيط والتوجيه والتحريض وتوظيف الموارد وتجنيد الأفراد لشن هجمات ضد دول المنطقة"، حسب الأمم المتحدة. وفي السعودية، أحبطت السلطات في كانون الأول/ديسمبر الماضي، مؤامرة لتفجير مقر وزارة الدفاع في الرياض.

لا يزال داعش يشكل تهديدا إرهابيا خطيرا، ولكنه يصبح مع الوقت محدود الإمكانية وأقل موثوقية في قديم الدعم المالي لفروعه ونشطائه

​​وفي مصر، واصل المتعاطفون مع داعش شن هجمات على الأقباط، وقد كان آخرها، تبني المسؤولية عن هجوم خارج كنيسة قبطية في القاهرة في كانون الأول/ديسمبر الماضي؛ وقد أسفر الهجوم عن مقتل 12 شخصا على الأقل. ويسعى تنظيم داعش إلى إضفاء حالة من الترابط بين أنشطته الإقليمية. وتلاحظ الأمم المتحدة أن التنظيمات التابعة لـ"الدولة الإسلامية" في إفريقيا، بما في ذلك جماعة "بوكو حرام"، أرسلت مقاتلين إلى ليبيا، وأصبح قيادي بارز من داعش ـ ليبيا، عضوا في مجلس شورى "الدولة الإسلامية في سيناء" المصرية.

وأبعد من ذلك، أفادت تقارير الأمم المتحدة بأن تنظيم "الدولة الإسلامية" الأم وفر التمويل لفرع التنظيم في الفليبين، خلال حصار مدينة مراوي. ويقول تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إن "الجماعات الموجودة جنوب الفليبين تلقت مئات آلاف الدولارات من تنظيم الدولة الإسلامية الأم، عبر بلد ثالث، قبل الحصار".

على الرغم من هذه الصورة القاتمة، فإن الاستهداف المركّز لأموال داعش، واستخدام البيانات البيومترية، والتعاون المستمر بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، يبشر باستجابة فعالة لمواجهة قدرات التنظيم وتهديداته. وفي حين لا تزال المجموعات المحلية، في أفغانستان على سبيل المثال، تتلقى بعض التمويل من التنظيم ـ الأم، فإن التنظيم يشجع هذه المجموعات المحلية على تمويل أنشطتها ذاتيا، مع أنها ستعاني في سبيل البقاء من دون تمويل داعش ـ الأم. ويعتبر تمويل تنظيم "الدولة الإسلامية" في اليمن لزملائه في الصومال "محدودا ولا يمكن الاعتماد عليه".

لا يزال داعش يشكل تهديدا إرهابيا خطيرا، ولكنه يصبح مع الوقت محدود الإمكانية وأقل موثوقية في قديم الدعم المالي لفروعه ونشطائه. وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح.

ماثيو ليفيت هو مدير برنامج مكافحة الإرهاب في معهد واشنطن

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.