بقلم رياض عصمت/
إنه لأمر صادم أن الإعلام في القرن الحادي والعشرين أصبح مبعث حيرة وضياع بقدر ما هو مصدر معلومات واطلاع. يحاول المرء جاهدا تسقّط خبر ساخن معين، فيجد مقاربات مختلفة له تناقض بعضها بعضا، فلا يدري في نهاية المطاف الصحيح من الخطأ. كثيرا ما تصاغ الأخبار حسب هوى المحطة التلفزيونية الفضائية أو الإذاعة المسموعة أو الموقع الإلكتروني، وبالأحرى بإلزام من قبل الجهة الممولة، وليس بالتزام نابع من موضوعية العمل الصحفي. بالتالي، نجد كل طرف يعرض بشكل مقنع حيثيات حدث ما ونتائجه بصورة مخالفة لعرض الأطراف الأخرى تماما، وذلك حسب أجندة دولة من الدول، أو مصالح حزب سياسي أو إثنية عرقية أو طائفة دينية أو كتلة من كتل المعارضة المتنازعة على فرو الدب قبل اصطياده. من ناحية أخرى، نقرأ أحيانا خبرا ما في موقع إلكتروني، وبعد أيام قليلة نقرأ تفنيدا له على الموقع ذاته، ونكتشف أننا كقراء كنا ضحية كذبة.
في الواقع، شكلت بداية انطلاق الإعلام الإلكتروني والفضائي ثورة نسفت أشكال الهيمنة الدعائية المتحيزة والمتحاملة لمحطات إذاعة وتلفزيون أرضية وصحف ومجلات تمولها جهات رسمية، واخترقت أسوار الرقابات المفروضة من الحكومات، فجعل هذا التقدم التكنولوجي الملموس العالم قرية صغيرة. لا شك أن ثورة الاتصالات ثورة إيجابية غيرت وجه العالم، لكن الأمر ـ للأسف الشديد ـ خرج عن إيجابية البدايات المبشرة ليدمر المصداقية عبر حلول الإلزام محل الالتزام، وتغليب الرأي المسبق على الحقيقة الموضوعية.
لست أزعم أن هناك مصداقية مطلقة في أي جهاز إعلامي مهما ادعى من حياد. لكن الأمر يبقى نسبيا، إذ يتعامل الإعلام في الدول المتقدمة حضاريا مع المتلقي باحترام لذكائه، وإدراك أن هناك مصادر أخرى للخبر تحتم على الجميع التحلي بقدر من الأمانة والدقة، مع الاحتفاظ التام بحرية التعليق على الخبر.
إقرأ للكاتب أيضا: العالمية أم العولمة؟
لا ننكر مراوغة بعض أجهزة إعلامية كبرى أحيانا عن طريق اللعب بالكلمات. على سبيل المثال، أذكر خلال إحدى الحروب في الشرق الأوسط أن إحدى المحطات الشهيرة قامت بصياغة أحد الأخبار باللعب على تعبير "اجتمع العرب"، فجعلته "تجمَّع العرب". الفارق في الإيحاء شاسع طبعا بين كلمتي "اجتمع" و"تجمع"، إذ أن التجمع يوحي بأن الفلول ترص صفوفها بعد الهزيمة، مما جعل للكلمة وقعا سلبيا محبطا على المستمع، في حين أن كلمة "اجتمع" توحي بخطوة إيجابية تشير إلى النية لاتخاذ موقف جماعي قوي وموحد.
هناك أمثلة عديدة مشابهة تعكس موقفا مسبقا متحيزا وغير موضوعي، لكنها تمارس بمهارة وذكاء. أما معظم الجهات الإعلامية في الدول النامية، فما زالت تبادر بقدر من السذاجة والغباء إلى اتهام كل من يخالفها الرأي السياسي فورا بأنه إرهابي متآمر، خائن عميل، رجعي إمبريالي... إلى آخر تلك الصفات. تلك، بالطبع، تهم مخيفة تلجم أفصح لسان عن النقاش، وتجعل الخوف يدب ليرعش الأطراف، ويسمى هذا بمصطلح الملاكمة "ضربا تحت الحزام".
كان المبرر في القرن الماضي لانتقائية الأخبار وصياغة التعليقات في إعلام كثير من الدول النامية هو كلمة جميلة الوقع، هي "الالتزام". لكن هذا الالتزام في واقع الأمر كان "الإلزام" بعينه، لأنه كان نابعا من هيمنة الحزب الواحد، وليس من وجود تعددية ديمقراطية وتنوع سياسي، كما في برلمانات العالم المتقدم المكونة من سلطة ومعارضة.
أذكر أنني طرحت ذات مرة في اجتماع تلفزيون حكومي في سبعينيات القرن العشرين فكرتين لتطوير نشرة أخبار التلفزيون أثارتا يومها الاستغراب الشديد ـ إن لم أقل استهجانا وسخرية خفيتين ـ رغم كونهما من بدهيات العمل في الإعلام الغربي. أولهما، ضرورة أن يكون ترتيب النشرة الإخبارية حسب أهمية الخبر، وليس بالترتيب التقليدي الصارم: "محلي، عربي، عالمي". بالتالي، اقترحت أنه ليس من الضروري أن تبدأ النشرة الإخبارية باستقبال وفد ما أو تدشين مشروع إذا كان هناك حدث عالمي بارز أشد أهمية، ربما يكون مجرد زلزال أو إعصار أو تسونامي. أضفت قائلا إن خبر المسؤول الرفيع يمكن أن يتصدر النشرة في حالة قام بأمر مهم فعلا، وإلا فلا يوجد مبرر إعلامي لإبرازه، كما لا يوجد مبرر لتأخير خبر عالمي بارز.
بالطبع، رمقني معظم الزملاء شذرا، مخفين امتعاضهم وكاتمين ابتساماتهم، كأنني شخص آت من كوكب آخر. أما اقتراحي الآخر الأهم، فكان ضرورة أن تتمتع النشرة بموضوعية الخبر وحرية التعليق. بالتأكيد، لم يأت ذلك الاقتراح من فراغ، وإنما عن تجربة عملية. إذ سبق لي أن عملت في مطلع حياتي المهنية محررا ومترجما في غرفة أخبار الإذاعة. هناك كنت شاهد عيان على التزييف في صياغة الأخبار من الإلزام بوجهة نظر سياسية متحيزة لإظهار جانب وإخفاء جوانب أخرى عن المستمع. كان الخبر اليومي الأبرز في أواخر ستينيات القرن العشرين هو تغطية أخبار حرب فيتنام، وكانت مهمة المحررين تفرض الانتقائية في بث الأخبار نتيجة الإلزام بسياسة الدولة. بالتالي، كانت النشرة تذكر أرقام خسائر الفيتناميين المناصرين للولايات المتحدة فقط، وتغض النظر تماما عن خسائر "الفيتكونغ"، وبالتالي كانت تجعل المتلقي يستمع إلى نصف الحقيقة، لأن في الحرب خسائر من الطرفين المتنازعين.
إقرأ للكاتب أيضا: شموع الأطفال تضيء عتمة العرب
كذلك، كان التقليد الشائع أن يلي نشرة الأخبار تعليق سياسي، لكنه لم يكن يختلف في شيء عن صياغة الأخبار نفسها من التحيز، فلم تحظَ تلك التعليقات اليومية بأي تنوع في وجهات النظر، أو بأي رأي موضوعي يثير شهية المستمع للتفكير والتأمل، لأن التحليلات الرتيبة والمكررة كانت أشبه بالبوق الذي يردد نغمة رتيبة واحدة يوما بعد يوم إلى ما لا نهاية، مثلها مثل الصحف الرسمية وشبه الرسمية التي تتشابه عناوينها حتى لتبدو أشبه بنسخة إلزامية وحيدة الرأي والموقف.
تلك أيام قديمة ولت ظاهريا إلى غير رجعة مع بدء عصر الإنترنت والفضائيات. لكن جزءا منها ـ للأسف الشديد ـ ما زال عالقا بعقلية الإعلام الحكومي في أكثر من بلد من بلدان الشرق الأوسط. بالتالي، ما زلنا نسمع ونشاهد عبر وسائل إعلام ممولة مباشرة من حكومات عربية، بل حتى عبر بعض وسائل إعلام أجنبية تزعم الحياد والاستقلالية، الخطأ ذاته يتكرر في القرن الحادي والعشرين. الأجهزة الإعلامية التي لا تتورع عن الإقدام على هذا، لا تكترث بموضوعية الخبر، ولا تعنى بحرية التعليق، بل تمزج هذا بذلك في بوتقة واحدة. بالتالي، فإن الشكل ربما تغير، لكن لم يتغير المضمون.
لا تخلو حتى بعض أجهزة الإعلام العالمية الموجهة إلى العالم العربي من ظاهرة التحيز أو التحامل الضمنيين، فبعض المراسلين الصحفيين الذين يتمركزون في الشرق الأوسط زاعمين أنهم شهود عيان موضوعيين تحفل كتاباتهم، أحيانا، بمغالطات وتزييف للحقائق، إما نتيجة لعدم إدراك دقائق الوضع وحيثياته بسبب الغربة عن المنطقة، أو ربما خدمة لأجندة معينة، أو بدافع مصلحة ما.
يجد القارئ أو المستمع أو المشاهد نفسه أمام آراء هؤلاء تائها وسط متاهة غريبة، فالمعلومات تبث الشكوك في عقله بدل أن ترشده وتنوره. بالتالي، يتحول أولئك المراسلون من شهود عيان إلى شهود زور، ولا يكونون أكثر مصداقية وصدقا من الصحفيين المخلصين من أبناء البلد نفسه.
نبعت هذه المشكلة الخطيرة من الضخ الإعلامي الكثيف في عالمنا الراهن المعقد تكنولوجيا، ومن الكثرة المفرطة في وسائل الاتصال الجماهيري، بحيث تحولت نعمة تحطيم الرقابة وهيمنة الرأي الدعائي الواحد إلى نقمة التلاعب بعقول المتلقين عبر الترويج لوجهات نظر أبعد ما تكون عن الواقع الموضوعي. لذلك، صار الإنسان المعاصر، في الشرق الأوسط خاصة، بحاجة إلى مقاطعة الأخبار مع بعضها من مصادر مختلفة، وغربلة ما يتلقى عبر وسائل إعلام متباينة المواقف كي يصبح أكثر إدراكا للحقيقة، ويفرق بين الالتزام والإلزام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)