بورصة نويويورك (أ ف ب)
بورصة نويويورك (أ ف ب)

بقلم جمال أبو الحسن/

"نحن لا نحصل على عشائنا بسبب كرم الجزار أو الخباز، ولكن بواقع سعيهم وراء مصالحهم الذاتية". تلك الجملة البسيطة، التي وردت في أشهر كتب علم الاقتصاد "ثروة الأمم" المنشور سنة 1776 لصاحبه آدم سميث، هي الجوهر الحقيقي للفكرة الرأسمالية. عبقرية "سميث" تكمن في وضع يده على هذا الجوهر: المصلحة الذاتية كمحرك للحياة الاقتصادية في أي مجتمع. هو جادل، بصورة بالغة الإقناع، بإمكان تنظيم المجتمعات الإنسانية حول هذه الفكرة. "سميث" ليس أول من يكشف عن المصلحة الذاتية، بل وغريزة الجشع، كمحرك للسلوك الإنساني. ولكنه أول من كشف للناس أن هذه الغريزة الأولية يمكن أن تكون محركا للكثير من الأمور الجيدة والنافعة لهم. بهذا المعنى، يمكن النظر لما أتى به الرجل باعتباره "ثورة" حقيقية.

لاحظ أن السوق الرأسمالية كانت موجودة طوال التاريخ. لم يخترع "آدم سميث" السوق. كانت قديمة قدم المجتمعات الإنسانية. الجديد، كان إمكانية تنظيم المجتمع كله على أساس من الفكرة الرأسمالية القائمة على الاستثمار والمخاطرة. طوال التاريخ شكلت مراكمة رأس المال مشكلة كبرى. المشروعات تحتاج إلى أموال لا يسهل الحصول عليها. من لديهم الأموال لا يريدون المخاطرة، خاصة إن كانت ـ كما هو الحال في أغلب الأحيان ـ عالية وفوق مستوى التحمل. الثروة والغنى كانا مرادفين للادخار والاكتناز. الرأسمالية، بما وفرته من أدوات مالية مبتكرة مثل البنوك والتأمين والشركات المساهمة، خففت من عامل المخاطرة. هكذا نشأت مجتمعات كاملة في أوروبا، ثم في الولايات المتحدة، على أساس من التنظيم الرأسمالي. هذا ما يطلق عليه "المجتمع التجاري" (Commercial Society)، تمييزا له عن المجتمع الزراعي أو الإقطاعي. رأى "سميث" أن في مثل هذا المجتمع يتحول كل شخص، نوعا ما، إلى تاجر يسعى إلى تلبية حاجاته من خلال السوق. أول امبراطورية رأسمالية خالصة ـ تقوم على أساس التجارة ـ ظهرت في هولندا، ثم زاحمتها فرنسا وبريطانيا... والباقي تاريخ معروف.

إقرأ للكاتب ايضا: الرأسمالية: ما الذي يحركها؟ (1)

عاش "سميث" في فترة تسارع عجلة النظام الرأسمالي بصورة غير مسبوقة: فورة التصنيع، انتقال الملايين للعيش في المدن، التطور التكنولوجي المذهل خاصة في وسائل المواصلات، تعاظم دور التجارة، ظهور طبقة جديدة من الرأسماليين من أصحاب الشركات والمشاريع، وأيضا طبقة من العمال... هذه الظواهر كلها ارتبطت بالرأسمالية. كان واضحا أن الفكرة تبشر بتغيير اجتماعي هادر وعميق، وليس مجرد تغيير اقتصادي. حاول "سميث" أن يفهم كيفية عمل هذا النظام. وسعى لتحليل الأساس الذي يقوم عليه، والسبل التي يمكن من خلالها توليد الثروة. أهم ما أماط "سميث" اللثام عنه هو أن السوق تعمل من تلقاء نفسها بشكل طبيعي، من خلال ما أسماه "اليد الخفية". هذه اليد الخفية هي التي تحدد الأسعار من دون أي تدخل أو تأثير. بالعكس، التدخل ـ من جانب الحكومة ـ يضعف السوق ويشوهها.

حذر سميث من أن أي اجتماع بين أرباب الصناعة الواحدة سينتهي حتما بمؤامرة على المستهلك

​​الكلمة المفتاح في "عالم آدم سميث" هي المنافسة. من خلال المنافسة تتحدد أسعار السلع والخدمات بصورة تلقائية. إذا زادت أسعار سلعة ما سيسارع منتجون آخرون إلى دخول السوق لتوفير المزيد منها. النتيجة الطبيعية هي انخفاض السعر إلى مستواه العادل كما يحدده مجتمع البائعين والمشترين. بنفس المنطق، لا ينبغي العمل على تقييد الواردات (بالتعريفات الجمركية)، ولا حتى إعطاء مزايا للصادرات... التبادل التجاري نفسه كفيل بتحقيق المكسب للجميع من دون أي تدخل. إلى ذلك، أضاف "سميث" فكرة أخرى نيرة هي "تقسيم العمل" كوسيلة مدهشة لمراكمة الثروة في زمن التصنيع.

هذه الأفكار التي نراها بسيطة وساطعة الوضوح ما زالت تمثل ـ إلى اليوم ـ ركيزة النظام الرأسمالي. يصعب أن نصادف جدلا حول الرأسمالية (التي طالما كانت موضعا للجدل والنقاش) من دون أن يلمس هذه المبادئ بصورة أو بأخرى. تاريخ الرأسمالية منذ آدم سميث هو، بمعنى من المعاني، صدى للأفكار التي طرحها في كتابه العجيب. أفكاره هوجمت وانتقدت، نُقحت وعُدلت. بدا في بعض الأحيان أنها اندثرت ولم تعد صالحة. ثم ما لبثت أن أطلت برأسها من جديد لتصبح محور الجدل حول كيفية تنظيم الاقتصاد. في كل منعطف في تاريخ الرأسمالية كان "سميث" حاضرا، بداية من الثورة الصناعية، وليس انتهاء بالثورة التاتشرية والتجربة الصينية! بصورة أو بأخرى، لقد طرح "سميث" كل الأسئلة والقضايا الخاصة بالمنظومة الرأسمالية... بما في ذلك تلك التي تمثل نقاط ضعف خطيرة فيها.

إقرأ للكاتب أيضا: هل ننظر إلى التاريخ بمعايير زماننا؟

من المدهش حقا أن "سميث" لم يكن ينظر باعتبار كبير للرأسماليين. هو حذر من أن أي اجتماع بين أرباب الصناعة الواحدة سينتهي حتما بمؤامرة على المستهلك. الأهم، أنه رأى أن الرأسماليين لديهم من النفوذ السياسي ما يمكنهم من التأثير على الحكومة لاستصدار قوانين لصالحهم (دعم للصناعة أو تعريفات حمائية ضد المنافسة). قال بوضوح إن أي اقتراح يأتي من الرأسماليين لا بد أن يؤخذ بحذر شديد، بل "وبأكبر قدر من التشكك"!

ككل كتاب عظيم، فهم الناس "ثروة الأمم" بطرق مختلفة. هو كان ملهما لتوماس جيفرسون وجيمس ماديسون، واعتبروا أن أفكار الحرية الواردة فيه تشكل الوجه الآخرـ الاقتصادي ـ للنظام السياسي الذي انهمكوا في صوغه وتصميمه على الجانب الآخر من الأطلنطي. "توماس بين" رأى في الكتاب جانبا راديكاليا لأنه يهاجم الأرستقراطية الراسخة. "إدموند بيرك" ـ على النقيض تماما ـ رآه يدعم فكره المحافظ. تعدد القراءات لا يعني سوى أن الكتاب انطوى على ثورة فكرية كاملة: مفهوم جديد لمجتمع إنساني قائم في الأساس على التجارة والسوق، مع الحد الأدنى من التدخل من جانب الحكومات.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.