كيليان كونواي، مستشارة الرئيس الأميركي، تلقط صورة لترامب وقادة الجامعات السوداء التاريخية (أ ف ب)
كيليان كونواي، مستشارة الرئيس الأميركي، تلقط صورة لترامب وقادة الجامعات السوداء التاريخية (أ ف ب)

بقلم حسن منيمنة/

شهر شباط/فبراير في الولايات المتحدة هو شهر التاريخ الأفريقي ـ الأميركي، تخصص فيه الحصص الدراسية والفعاليات الثقافية لإبراز هذا الجانب الهام من ماضي البلاد وحاضرها والذي يشغله مواطنون تعود أصولهم إلى القارة الأفريقية.

والتركيز خلال الشهر، كما في عموم الثقافة السائدة هو على وجهين، الأول هو الإنجازات التي حققها الأفارقة الأميركيون، سواء في نضالهم السياسي أو في مساهماتهم العلمية والفنية والرياضية، والثاني هو بلوغ الولايات المتحدة درجة الاندماج والمساواة والتي يتوجب معها تجاوز الماضي الأليم. والواقع أن هذا التركيز ملتبس، ويحتاج إلى مراجعة في عمقه. وكما الحال في الولايات المتحدة، فإن عموم مجتمعات الشرق الأوسط بحاجة كذلك إلى مساءلة جديدة وجدية بشأن فصول من تاريخها قل أن تتطرق إليها.

خلف الكلام عن إنجازات الأفارقة الأميركيين كثيرا ما تتخفى مقادير من الأبوية الصريحة والعنصرية المرتبكة. يمتدح هؤلاء لأنهم حطموا أرقاما قياسية في مباريات رياضية أو حين تفيض الأندية بذوي القامات المهيبة منهم، ويثنى عليهم حين تطرب أنغامهم عموم المجتمع، حتى وإن اعترتها بعض البذاءة، ويجري البحث الحثيث عمّن يمكن إضافته منهم إلى سجل العلماء والمبتكرين، فتعلو الإشادة بزبدة الفول السوداني وكأنها الإنجاز الموازي لنظرية النسبية أو لتقنيات الصواريخ. وإذا دلت هذه الممارسات على أمر ما، فهو أن القناعة بتفوق العنصر الأبيض على هؤلاء السود ما زالت راسخة في هذا المجتمع. وأن الإطراء الذي يريده التقدميون البيض شاهدا على اعتناقهم المساواة إزاء مواطنيهم من ذوي الأصول الإفريقية يحاكي وحسب الكلام المعسول والذي يكيله الكبار على الصغار في السن.

ساوى نص الإسلام بين الأعراق، كما أنه منع المثلة بجسم الإنسان، وجعل من عتق الرقاب كفارة لبعض الذنوب، ولكنه كذلك حلل السبي وجرم العبد "الآبق" الرافض لعبوديته

​​أما الحقيقة الصعبة فمختلفة. لا جدوى هنا من التأكيد على المساواة القطعية والطبيعية لمختلف الأعراق، أو على غلبة التنشئة والتجربة على الوراثة النسلية، فهي من المتعارف عليه علما وعلنا، وإن تبين أن من ينحى إلى الرأي المناقض في الولايات المتحدة ليس القلة القليلة المتوقعة. بل الحقيقة هي التالية: الولايات المتحدة، هذه التجربة الفريدة والدولة الأعظم على مدى المكان والزمان، لم تسدد بعد المستحقات لمن بناها. وهي إذا كانت تستطيع أن تتسلح بمقولة أن الأرض لفاتحها وفق سنة التاريخ وأن أعداد السكان الأصليين كانت ضئيلة ابتداء، فإنها، وهي تعتنق العدالة وتقدس حق الملكية في شرائعها، عاجزة عن أن تدعي أن ما يتوجب للذين زرعوا وبنوا وشقوا وشيدوا قد سدد. فهذه حقوق مالية ومعنوية لا تنتفي بالتقادم.

إقرأ للكاتب أيضا: مسلمون بين الاطمئنان والقلق

أربعون مليون من الأفارقة اقتيدوا للعبودية والاسترقاق من قارتهم إلى هذا العالم الجديد، مات نصفهم خلال العبور الأوسط، والنصف الآخر سُخّر وعذّب وفتّتت أسره وروابطه ليخرج القامات المهيبة، نفسها، القادرة على الإنتاج. هذه الأعداد، لو قدر لها أن تبقى في قارتها لما شهدت ما شهدته من التفريغ والتفخيخ، ولو لم يمنع عنها العلم لما كانت ثمة حاجة اليوم إلى تبجيل زبدة الفول.

قد تنجو الولايات المتحدة اليوم من تبعات تهمة أنها استرقت وأذت، فهذه الأفعال بحق الأفراد في أيامها لم تكن من المحرمات، وكان تصنيفها للمستعبدين السود أنهم دون البيض في بشريتهم. أما وقد تبين فساد هذه المقولة وخبثها، فإن الرأسمالية التي تلتزم بها الولايات المتحدة تفتضي الإقرار بأن كل واحد من هؤلاء الأحرار المستعبدين قد خلف ميراثا، وهذا الميراث، مع تراكم الفوائد، هو دَين على كافة الأصول المادية لهذه البلاد، متوجب على كامل مواطنيها، من كان أجداده من مالكي العبيد، ومن جاء إليها بالأمس القريب وتجنّس بجنسيتها. فهذا الرخاء وهذه القوة وهذا الإزدهار بعضها من مال هؤلاء وأحفادهم الذين لا يزالون إلى اليوم يدفعون ثمن التثبيط والطمع والمحاولات المنقوصة والمبتورة للتنصل من تسديد الواجب. أشهر شباط/فبراير عديدة سوف تمر قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من أداء ما عليها.

هي مسائل تطرح في هذه الولايات المتحدة. أما ما يقابلها فيكاد أن يغيب تماما في ثقافات الشرق الأوسط. عبور آخر أفرغ القارة الأفريقية، باتجاه الشرق وحواضر العالم القديم، بالتوازي مع ما جرفه العبور باتجاه الغرب. على مدى قرون طويلة لم تطوَ صفحة العلني منها إلا في العقود القليلة الماضية، تعاونت مجتمعات الشرق الأوسط ودوله ودياناته على استنزاف هؤلاء "الزنوج"، والذين بجهل وخبث يضاهي ما شهده الغرب، جرى الطعن بإنسانيتهم.

شهر شباط/فبراير في الولايات المتحدة هو شهر التاريخ الأفريقي ـ الأميركي وقد يكون من المفيد أن يكون كذلك شهرا عربيا للتاريخ الأفريقي العربي

​​نعم، ساوى نص الإسلام بين الأعراق، كما أنه منع المثلة بجسم الإنسان، وجعل من عتق الرقاب كفارة لبعض الذنوب، ولكنه كذلك حلل السبي وجرم العبد "الآبق" الرافض لعبوديته. وإذا كان خصي العبيد محرم، فإن اقتناء العبيد المخصيين بقي مباحا، وعليه نشط الأطباء اليهود، والذين لا يحرم شرعهم الإخصاء، عند أطراف الديار الإسلامية لإنتاج الآغاوات إيفاء لحاجة المسلمين وغيرهم.

من رجال أفريقيا من شُوّه واستُعبد، أما بعض نسائها فكن ملك يمين وجَوار إلى أمس قريب. وهنا يكمن فارق هام بين التجربتين الشرقية والغربية في الاستيلاء على ناس أفريقيا. في العالم الجديد، حين اعتدى السيد على جاريته، كان طفلها عبدا يضاف إلى جمع العبيد، بياع ويشترى. أما في الشرق، فالطفل ولد لأبيه حر مثله وابن مجتمعه، وفق مقتضى القناعة والقاعدة، والجارية أم ولد تبقى أَمَة ولكن الاتجار بها يمتنع. ولسان الحال والذي يجب الإفصاح به في هذه المجتمعات الشرقية عامة والعربية خاصة، هي أن بعض أجدادنا قد اعتدوا على بعض جداتنا، فيما هم حرموا بعض أخوالنا من حقهم كرجال. وبهذا الفعل وذاك، استنزفت ديار لنا فيها صهر ونسب.

إقرأ للكاتب أيضا: معضلة التوفيق بين القصص الديني والتاريخ الوقائعي

الأفارقة الأميركيون جمع على حدة، وإن كان في فرزهم زعم نظري للتداخل المتحقق أبدا بين الأعراق. أما "الأفارقة العرب"، فمنهم من جاء حديثا من أفريقيا، كما في اليمن وعُمان، وهؤلاء يمكن إقرار بعض الفرز لأوساطهم، إلا أن غالب "الأفارقة العرب" ليس جمعا مستقلا، بل هو في الموروث النسلي لأكثر العرب، إذ يتمازج مع أصولهم العرقية المختلفة، ليظهر فيغلب في كل جيل حينا (كما في السودان وبعض العشائر في الجزيرة العربية وصولا إلى بادية الشام) أو ليضمر فيعود ويظهر بأوجه بعد جيل أو أجيال.

من شأن إفريقيا، والتي تشهد للتو الاستثمار والإنتاج والتقدم في مواقع عدة، أن تشكل حلقة هامة لاستيفاء الأمن الغذائي والمائي، والاقتصادي عامة، للعالم العربي المأزوم ابتداء نتيجة شحة موارده الحياتية، والمعرض للمزيد من الأزمات نتيجة التبدل المناخي.

والصناديق السيادية لعدد من الدول الخليجية، كما الجهات المستثمرة من أكثر من دولة شرق أوسطية تعمل للتو على إيجاد الفرص المناسبة على مدى القارة الأفريقية. قد يكون من المفيد، كي لا يقتصر هذا التواصل على الأبعاد الآنية، أن تراجع الثقافة العربية خاصة مكانة إفريقيا ودورها في تاريخ مجتمعاتها، وأن تعيد النظر بافتراض الانقطاع حيث التواصل والتلاحم كانا الأساس.

قد يكون من المفيد أن يكون شهر شباط كذلك شهرا عربيا للتاريخ الأفريقي العربي.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.