حان الوقت لمراجعة التراث الديني والعادات الاجتماعية (أ ف ب)
حان الوقت لمراجعة التراث الديني والعادات الاجتماعية (أ ف ب)

بقلم منصور الحاج/

يحكى أن قبيلة يمنية قتلت مدرسا سودانيا يعمل في مدرسة تقع داخل مضارب قبيلة معادية لها. أثارت الحادثة غضب القبيلة التي فجعت في مدرسها فاجتمع شيوخها وأعيانها للتفاكر والتشاور في الطريقة المناسبة للانتقام وانتهوا إلى أن يكون الرد بقتل مدرس سوداني من العاملين في مضارب القبيلة الأخرى. وبغض النظر عن واقعية القصة أو رمزيتها فإنها نموذج لتصور فاسد لمفهوم العدالة.

لقد ساهم تداخل التراث الديني والعادات والتقاليد الاجتماعية في عوالم العرب والمسلمين مع القيم السامية كالعدل والمساواة والشرف والأخلاق في إنتاج تصورات مشوهة لهذه القيم، والأسوأ من ذلك هو انتشار تلك التصورات المشوهة على نطاق واسع وعدم تعرضها للتحليل والنقد والمراجعة.

عند متابعتي لردود الفعل التي أعقبت حادثة الاغتصاب التي تعرضت لها فتاة تشادية عام 2016 على أيدي شبان يتقلد آباؤهم مناصب عليا في الدولة التشادية، لاحظت استخدام الكثير من المشاركين لعبارات تتضمن تصورات مشوهة عن العدالة في تسجيلاتهم ومشاركاتهم المنشورة على موقع "فيسبوك" والتي نددوا فيها بالجريمة وأعربوا فيها عن تضامنهم مع الفتاة وطالبوا بمعاقبة المتهمين.

مبدأ حرية الاعتقاد لا يعني فقط الاحتفاء باعتناق غير المسلمين للإسلام ومعاقبة المسلم حين يختار دينا آخر

​​فعلى سبيل المثال، يقول كاتب إحدى المشاركات: "عندما تشوه سمعة فتاة، فتأكد بأن دور أختك قادم". هذه العبارة التي أيدها عدد كبير من المتعاطفين مع الفتاة تحمل في ثناياها فهما مشوها لمفهومي السمعة والعدالة. فمن غير المنطقي أن تكون سمعة الفتاة هي التي تشوهت بسبب الاعتداء الذي تعرضت له، بل على العكس تماما، سمعة المعتدين هي التي يفترض أن تتشوه بسبب فداحة الجرم الذي ارتكبوه.

كما توقفت أيضا عند تسجيل مصور قالت فيه إحدى المتضامنات مع الفتاة: "أخذوا أهم ما كان عندها، أخذوا شرفها واحترام الناس لها والأهم احترامها لذاتها". إن الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة هنا هي: كيف تحول مفهوم الشرف من مبدأ إلى عضو جسدي محسوس يمكن استلابه؟ وكيف أصبح هذا العضو أهم الأعضاء؟ ولماذا تفقد من تعرضت للاغتصاب احترام الناس لها أو احترامها لنفسها؟

اقرأ للكاتب أيضا: فبراير... شهر للاحتفاء بإنجازات السود في أميركا

من الأسس القضائية الراسخة مبدأ شخصية العقوبة بمعنى ألا تطبق العقوبة إلا على مرتكب الجريمة، وهو مبدأ نص عليه القرآن في آية "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، واستنادا إلى هذا المبدأ، ليس من العدل أن يكون القصاص من المعتدين في أخواتهم. فبحسب المنطق الذي يُفهم من عبارة "عندما تشوه سمعة فتاة، فتأكد بأن دور أختك قادم"، فإن أي اعتداء على أخوات المعتدين لا يجب أن يحظى بنفس التنديد الذي حظيت به حادثة الاعتداء على الفتاة، بل يجب اعتباره انتقاما عادلا من المعتدين وهذا لعمري فهم سقيم. فكيف يقبل عاقل أن يكون فعل بهذه الشناعة محل تنديد ومحل قبول في نفس الوقت، على الرغم من أن الضحايا في كلا الحالتين أبرياء. كما أنني لا أفهم كيف أخذ المغتصبون "شرف" الفتاة المغتصبة و"احترام الناس لها". إن الشرف الساقط هنا هو شرف المجرمين، ومن الأولى أن يقل احترام الناس للمغتصبين وليس للضحية المغتصبة.

إن هذا الفهم السقيم للقيم والمبادئ السامية مرده تداخل الموروث الديني والعادات الاجتماعية في تفسير تلك القيم والمبادئ، الأمر الذي أدى إلى حدوث تضارب واختلاط. فعادة الأخذ بالثأر مثلا، تداخلت مع مبدأ العدالة. فحسب العادات القبلية فإن الثأر في قتيل القبيلة لا ينحصر في تقديم القاتل للعدالة، وإنما يمتد ليشمل قتل أي فرد من أفراد القبيلة التي ينتمي إليها القاتل بغض النظر عن ملابسات الحادثة.

من المؤسف أن يكون تفاعلنا مع جرم شنيع كالاغتصاب مرده نظرتنا الذكورية للأنثى باعتبارها ملك للأسرة دون اعتبار لصاحبة الشأن والآثار النفسية التي تمر بها جراء الاعتداء

​​وقس على ذلك مبدأ الشرف الذي تحصره العادات القبلية في الأعضاء الجنسية للمرأة، وبالتالي فإنه قد يتعرض للضياع أو التدنيس في حال ارتكاب المرأة فعلا ترى فيه القبيلة انتهاكا لهذا الشرف. إن من المفارقات العجيبة التي لا يتنبه لها الكثيرون، أن أولئك المنددين بحادثة الاعتداء على المغتصبة قد لا يتورعون عن تأييد ذويها إذا قتلوها بداعي غسل العار الذي دنس "الشرف"، في حال ممارستها الجنس طوعا وبمحض إرادتها مع شخص أحبته واختارته فيما لو كان خارج إطار الزواج مثلا. إن من المؤسف أن يكون تفاعلنا مع جرم شنيع كالاغتصاب مرده نظرتنا الذكورية للأنثى باعتبارها ملكا للأسرة دون اعتبار لصاحبة الشأن والآثار النفسية التي تمر بها جراء الاعتداء.

اقرأ للكاتب ايضا: مهلا يا دعاة 'السعودة'

أما فهمنا للأخلاق والقيم فهو انتقائي شخصي يتعلق بقربنا أو بعدنا من الشخص الخاضع لاختبار النزاهة. فالمسؤول الفاسد الذي يقتسم معنا حصيلة فساده أو يتغاضى عن تجاوزاتنا بعد حصوله على المعلوم فهو نموذج للمسؤول المتعاون الذي يساعد الناس على قضاء حوائجهم.

وتمتد التصورات المشوهة في عوالم العرب والمسلمين لتشمل مفهوم الحرية. فعلى الرغم من أن المسلمين يعترفون بأن "لكم دينكم ولي دين" و"لا إكراه في الدين" من المبادئ الإسلامية الثابتة، يعارض كثيرون منهم حق المسلم في الخروج من الإسلام ويعتبرون ذلك ردة يستحق عليها عقوبة القتل.

يعترف المسلمون أيضا بمبدأ المساواة، لكنهم يرفضون أن يتساوى الذكور والإناث في الميراث والشهادة أمام القضاء. يعترفون بمبدأ حرية التعبير لكنهم يرفضون انتقاد ولي الأمر ويرون فيه بابا للفتنة، في تجاهل تام للتراث الإسلامي الذي يعلي من قدر قائلي الحق أمام ولاة الأمر الظالمين ويعتبر انتقادهم للظلم "أعظم الجهاد". يعترفون بأن الله قسم البشر إلى شعوب وقبائل من أجل التعارف لكنهم في الوقت نفسه يؤمنون بالعداء الأبدي مع اليهود ويبررون هذا العداء بآيات القرآن التي تتهم اليهود بقتل الأنبياء، والأحاديث التي تتنبأ بأن المسلمين سيقتلون اليهود قبل قيام الساعة بمساعدة الشجر والحجر.

لقد حان الوقت لمراجعة التراث الديني والعادات الاجتماعية التي ساهمت في ترسيخ هذه الصور المشوهة للقيم والمبادئ العليا في المجتمعات العربية والإسلامية. فمبدأ المساواة بين البشر يجب أن يشمل جميع البشر بغض النظر عن الجنس أو الديانة، ومبدأ حرية الاعتقاد لا يعني فقط الاحتفاء باعتناق غير المسلمين للإسلام ومعاقبة المسلم حين يختار دينا آخر، وحرية التعبير لا يجب أن تكون حكرا على المسلمين في انتقاد الأديان الأخرى، وإنما يجب أن تشمل حق الآخرين في التعبير عن آرائهم في الإسلام وانتقاد رموزه والتشكيك في تاريخه وتراثه.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.