يحتفلون في ذكرى ولادة زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ (أرشيف)
يحتفلون في ذكرى ولادة زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ (أرشيف)

بقلم حسين عبد الحسين/

في الفضاء الإعلامي الناطق بالعربية، يندر العثور على أي مادة إيجابية بحق الولايات المتحدة. في المقالات والتقارير في إعلام الدول الصديقة، مثل مصر وتركيا والعراق، كما في إعلام الدول العدوة، مثل إيران وسورية والسودان، يتم تصوير أميركا على أنها مصدر كل بلاء الكون وشروره. في الإعلام الناطق بالإنكليزية كذلك، باستثناء في أميركا وإسرائيل، الصورة عن أميركا سلبية. حتى في كندا، لا تسلم الجارة الأميركية من الانتقاد المتواصل.

التفسير لدى رجالات دولة مخضرمين، من طراز السناتور السابق جورج ميتشل، هو أن هذا النوع من الكراهية مفهوم، ففي تاريخ البشرية، حسد ضد القوي والناجح والمتفوق، وفي هذه الحالة الولايات المتحدة. وميتشل هذا يتمتع بخبرة دولية واسعة، فهو عراب اتفاقية السلام التي أنهت الحرب الأهلية الإيرلندية، وهو مبعوث سلام إلى الإسرائيليين والفلسطينيين، على الرغم من فشله في إحداث أي تقدم بسبب تعقيدات صراع أفشل كل من سبقه من مبعوثين.

لكن الأرجح أن كره العالم للولايات المتحدة ليس مصدره الغيرة، على ما يعتقد السناتور ميتشل. هذا الكره تصنعه أجهزة استخبارات الحكومات المعادية لأميركا، الصديقة منها والحليفة، وتموله، وتسعى إلى نشره بين سكان المعمورة وتحويله إلى ثقافة طاغية.

تفوق أميركا ليس في جيشها، ولا في اختراعاتها بل في الحرية التي يتمتع بها أفرادها وفي تفويض أمرهم إلى حكومة ينتخبونها لأجل محدد

​​لكن كراهية أميركا، على انتشارها، تبقى مزيفة ومصطنعة، فالعالم بأكمله يتابع أدق تفاصيل الحياة الأميركية، من الانتخابات الرئاسية، إلى حفل جوائز الأوسكار السينمائية، ومباريات كرة السلة، والمسلسلات الكوميدية، وبرامج تلفزيون الواقع، وأفلام هوليوود. يتلقى العالم أخبار أميركا بشغف ويتابعها، ويسعى للاندماج فيها. وزيارة الولايات المتحدة ـ إن للانتساب لجامعاتها أو للإقامة فيها والهجرة إليها ـ ما تزال في صدارة أولويات غالبية سكان المعمورة.

اقرأ للكاتب أيضا: للبيع: سياسيون في لبنان

وبالتدقيق، يتبين أنه حتى الحكومات المعادية لأميركا، تنظر إلى كل ما هو أميركي باحترام وتسعى للتمثل به، وهو ما يجعل بعض مواقف هذه الحكومات أمرا عجيبا. مثلا، تطلق الصين، التي تلعن النموذج الأميركي المبني على الحريات الفردية، شعار "الحلم الصيني"، وهي عبارة مستوحاة من "الحلم الأميركي"، وهو حلم مصمم للأفراد ولحريتهم ولسعادتهم، لا لحكوماتهم، وهو ما يتنافى مع فلسفة الحكم الصيني القائم على قيادة الحكومة لحياة كل صيني بتفاصيلها الدقيقة.

ومن عجائب كراهية العالم لأميركا أن "الجمهورية الإسلامية" في إيران أعلنت عن استيائها يوم أصدر الرئيس دونالد ترامب مرسومه الاشتراعي، الذي قضى بمنع دخول مواطني بعض الدول إلى الولايات المتحدة، ومنهم مواطني إيران. اعترضت طهران على منع أميركا، التي تشتمها يوميا وتسميها "الشيطان الأكبر"، دخول الإيرانيين إليها، في موقف متناقض لا يتناسب مع دولة قائمة على شتم أميركا وثقافتها وفلسفة كيانها السياسي.

ومن عجائب الأمور أيضا تلك الأغنية المصرية العنصرية ضد الرئيس السابق باراك أوباما، والتي أرادت إظهار تفوق نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، ليس على أوباما فحسب، بل على أميركا بأكملها، فأوردت صورا تظهر السيسي والجيش المصري في سيارات همفي العسكرية، التي يتسلمونها بموجب المساعدة الأميركية السنوية إلى مصر، في مفارقة لم تخف إلا على منتجي الأغنية.

اعترضت طهران على منع أميركا، التي تشتمها إيران يوميا وتسميها "الشيطان الأكبر"، دخول الإيرانيين إليها

​​ربما هي وسيلة تستخدمها الحكومات لتبرير تسلطها المسبب لتؤخرها وشعوبها، مقارنة بتقدم الولايات المتحدة والدول الديموقراطية الحرة. فيتظاهر رئيس روسيا فلاديمير بوتين وكأنه انتزع الشرق الأوسط من السيطرة الأميركية، وتتظاهر الصين وكأنها الأولى في عدد التسجيلات السنوية للملكية الفكرية (وهي عملية يتلاعب فيها الصينيون لإظهار تفوق مزعوم).

اقرأ للكاتب أيضا: مواصفات الاستبداد

لكن الواقع هو أن تفوق أميركا ليس في جيشها، ولا في اختراعاتها، بل في الحرية التي يتمتع بها أفرادها، وفي تفويض أمرهم إلى حكومة ينتخبونها لأجل محدد، مقارنة بالدول التي تكره أميركا، والتي يحكم حكامها شعوبهم إلى الأبد، ويحصون على مواطنيهم أنفاسهم، ويمنعون عنهم حريتهم.

ولأن حرية شعوب العالم محدودة، يصبح متنفسها الوحيد التعبير عن الكراهية تجاه الولايات المتحدة. ولأن الولايات المتحدة هي من الدول القليلة التي تحترم حرية الرأي، حتى السلبي منه في حقها، تصبح وكأنها مصدر الشر في العالم. لكنها صورة مزيفة يصنعها طغاة العالم ويفرضونها على شعوبهم. أما هذه الشعوب، فتعشق أميركا سرا، ويسعى مواطنوها لزيارة الولايات المتحدة والهجرة إليها في أي فرصة تسنح لهم.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.