صورة جوية للكعبة في أيلول/سبتمبر الماضي (أرشيف)
صورة جوية للكعبة في أيلول/سبتمبر الماضي (أرشيف)

بقلم منصور الحاج

تعالت في الأشهر الماضية أصوات تطالب بفصل إدارة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة عن السعودية وإسنادها إلى هيئة مستقلة تعمل على تنظيم الحج والعمرة وتحرص على أمن وسلامة الحجاج والمعتمرين وفصل كل العوامل والخلافات السياسية عن الشعائر الدينية.

برزت هذه المطالب، التي باتت تعرف بقضية "تدويل الحج"، إثر اتهام قطر للسلطات السعودية بتعقيد إجراءات الحجاج القطريين ومطالبتها بعدم تسييس فريضة الحج بسبب الخلاف بين الدوحة والرياض. دولة قطر، وإن نفت رسميا على لسان وزير خارجيتها مطالبتها بتدويل الحج، إلا أن قناة "الجزيرة" التابعة لها خصصت للقضية ساعات طويلة في سابقة تعد الأولى من نوعها في تاريخ الفضائية القطرية.

مطالب "التدويل" هذه قوبلت برفض رسمي تام من قبل السلطات السعودية التي اعتبرت على لسان وزير خارجيتها عادل الجبير بأنها "عمل عدواني" وبمثابة "إعلان حرب". وانهالت الانتقادات من قبل الكتاب والموالين للمملكة في الصحف السعودية ووسائل التواصل الاجتماعي على كل من يؤيد تدويل الحج ويعارض إدارة السعودية للحج والمشاعر المقدسة ومن يتهمها بالتقصير في الحفاظ على سلامة الحجاج والمعتمرين، الذين يسقط منهم المئات سنويا ويحرم العشرات منهم من أداء الشعائر الدينية بسبب مواقفهم السياسية ضد النظام السعودي.

يلاحظ في الجدل بشأن "تدويل الحج" أنه لم يتطرق إلى قضية الاختلافات الفقهية والمذهبية والنهج المتشدد الذي تتبناه السلطات السعودية

​​وبالنظر إلى الحجج التي ساقها المطالبون بـ "تدويل الحج" لتبرير دعوتهم، يتضح أنها منطقية وإن كانت فرص تطبيقها ضئيلة جدا نسبة لاعتبارات القوانين الدولية وحق الدول في السيادة على أراضيها واتخاذ التدابير والسياسات التي تراها مناسبة للحفاظ على سلامة مواطنيها وحماية أمنها القومي.

اقرأ للكاتب أيضا: دور التراث الديني والعادات الاجتماعية في تشويه القيم والمبادئ

وعلى الرغم من الفشل الواضح للسلطات السعودية في إدارة شؤون الحج والتضييق على الحجاج الذين ينتمون لطوائف إسلامية مختلفة عن المدرسة الوهابية التكفيرية التي تتبناها السلطة وحرمانهم من ممارسة شعائرهم الدينية، فإن المدافعين عن السعودية لا يرون في ذلك انتهاكا لحقوق ملايين المسلمين الذين يرفضون تحويل السعودية للمشاعر المقدسة إلى شأن خاص وعدم وضع أي اعتبار للاختلافات الفقهية والمذهبية.

ويلاحظ في الجدل بشأن "تدويل الحج" أنه لم يتطرق إلى قضية الاختلافات الفقهية والمذهبية والنهج المتشدد الذي تتبناه السلطات السعودية على الرغم من أنها محاور أساسية من صميم المؤاخذات على سياسة السعودية في إدارة المشاعر المقدسة. تحديدا ضمن سياقات جهود المملكة في "إصلاح الخطاب الديني" والتصدي للفكر المتشدد، الذي تتهم بأنها وراء انتشاره من خلال المدارس والمساجد والمؤسسات الخيرية التي تتبناها حول العالم.

شخصيا، أرى أن أمام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان فرصة تاريخية للتكفير عن دور السعودية في نشر التطرف حول العالم، يتمثل في تحويل الحرمين الشريفين إلى مراكز للتسامح الديني بين المذاهب بإتاحة المجال للمدارس الدينية المختلفة للتفاكر والتحاور من أجل إيجاد صيغة للتعايش السلمي بين الطوائف الإسلامية ووقف حمامات الدم والإقتتال المذهبي.

سوف تتكرر المطالبة بـ"تدويل الحج" مستقبلا ما لم تغير السلطات السعودية سياساتها وتعيد النظر في تحالفاتها الدينية

​​وبالنظر إلى السياسة السعودية يلاحظ أن قضية التسامح المذهبي لا تحظى بأي اهتمام، بل على العكس فإن سياساتها تتمحور حول شيطنة إيران والمذهب الشيعي ونظام ولاية الفقيه وإيمان الشيعة بالمهدي المنتظر، بحسب تصريح محمد بن سلمان في لقاء مع الإعلامي داود الشريان الذي اتهم فيه إيران بالسعي للسيطرة على العالم الإسلامي وتمهيد المجال لظهور المهدي.

اقرأ للكاتب أيضا: فبراير... شهر للاحتفاء بإنجازات السود في أميركا

وخطورة هذا التوجه تكمن في أنها تغذي الصراعات المذهبية التي تسعى كل من المملكة وإيران إلى المتاجرة بها على حساب أتباع المذهبين السني والشيعي. ينذر هذا الأمر بمزيد من الكوراث في المنطقة، بينما تقتضي الحكمة ـ إن كان بن سلمان يسعى إلى إحداث نقلة نوعية وتغيير حقيقي في مستقبل المنطقة ـ أن يستثمر في التسامح الديني ومساعدة الشعوب على التعايش، عبر تبني سياسات عقلانية تقرب بين المذاهب وتركز على المشتركات وتحرص على النأي بالدين خارج المماحكات والحسابات السياسية.

إن أمام محمد بن سلمان فرصة تاريخية لقطع الطريق أمام النظام الإيراني والجماعات الإرهابية كالقاعدة وتنظيم داعش، من خلال الاستثمار في التسامح الديني الذي سوف يكسبه ثقة ومحبة وتأييد المعتدلين من جميع المذاهب والطوائف وهم الغالبية، أما الخطاب الطائفي فسيقوده في نهاية المطاف إلى طريق مسدود وإلى خلق أجيال جديدة من المتطرفين الذين لا يخفون رغبتهم في استعادة الخلافة الإسلامية والسيطرة على العالم الإسلامي.

إن قضية "تدويل الحج" والمطالبات بفصل مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة ليست بالأمر الجديد، وسوف تتكرر المطالبات مستقبلا ما لم تغير السلطات السعودية سياساتها وتعيد النظر في تحالفاتها الدينية وتحرص على مراعاة مصالح جميع المسلمين بغض النظر عن المذهب أو الطائفة.

على السلطات في السعودية أخذ هذه المطالب على محمل الجد والتعامل معها بعقلانية واتخاذ تدابير من شأنها قطع الطريق أمام كل من يسعى إلى استغلال المكانة الخاصة للحرمين الشريفين في نفوس المسلمين حول العالم. تمكن قطر على الرغم من صغر حجمها وقلة عدد سكانها من إثارة كل هذ الجدل وإعادة قضية "تدويل الحج" بتصريح مقتضب وحملة إعلامية عبر أذرعها الإعلامية مؤشر خطير على السعودية تفادي تكراره أو تبنيه مستقبلا من قبل دول إسلامية أعلى قدرا وأقوى نفوذا.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.