مسيحيون سودانيون يحيون عيد الميلاد في الخرطوم عام 2016 (أرشيف)
مسيحيون سودانيون يحيون عيد الميلاد في الخرطوم عام 2016 (أرشيف)

بقلم بابكر فيصل بابكر/

قال بيان صادر عن الحملة الدولية للتضامن مع مسيحيي السودان إن قوات أمنية هدمت الكنيسة الإنجيلية بضاحية الحاج يوسف في العاصمة الخرطوم في الثاني عشر من الشهر الجاري، ووصفت الحدث بأنه حلقة في سلسلة انتهاكات منظمة تمارس على الحريات الدينية واستهداف المسيحيين في السودان.

وأفادت الحملة أن القوات صادرت كل ممتلكات الكنيسة وفرضت طوقا أمنيا على المكان ومنعت التصوير والتغطية الإعلامية. واستنهضت الحملة الدعم الدولي للوقوف في وجه ما أسمته "الانتهاكات الممنهجة".

لم يك التعدي على الكنيسة الإنجيلية الأول من نوعه في ظل سيطرة النظام الإسلاموي الشمولي الحاكم في السودان منذ عام 1989، فقد سبقته ممارسات كثيرة مشابهة كان آخرها هدم كنيسة في ضاحية سوبا، جنوبي الخرطوم في أيار/مايو من العام الماضي.

وكانت الحكومة السودانية قد أرجأت العام الماضي تنفيذ قرار بهدم 27 كنيسة، ليس لأنها قد قررت تغيير سياستها تجاه دور عبادة المسيحيين، ولكن لأنها كانت تطمح في ألا تؤثر الخطوة على قرار أميركي وشيك الصدور بخصوص رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ عقدين من الزمن.

إن المأزق الحقيقي للنظام الإسلاموي السوداني يتمثل في انطلاقه من أفكار وممارسات مستدعاة من خزانة التراث ويراد لها أن تطبق لحل قضايا ومشاكل الوقت الراهن

​​ولا يستطيع المراقب للأوضاع السودانية إلا أن يضع ممارسات النظام الحاكم في إطارها الفكري الصحيح حتى يدرك أن هذه التصرفات لم تتولد من فراغ، وأن الحجج التي تسوقها الحكومة لتبرير هدم الكنائس من شاكلة أنها شيدت بطريقة عشوائية ليست سوى تبريرات واهية لا تصمد أمام الأدلة والبراهين المنطقية.

اقرأ للكاتب أيضا: في نقد مفهوم البيعة عند الإخوان المسلمين (1)

لم تشهد العاصمة السودانية أية حوادث هدم لدور عبادة المسيحيين في الماضي، بل ظلت أجراس الكنائس تدق بانتظام والعباد يؤدون صلواتهم باطمئنان؛ إلى أن جاء النظام الإسلاموي رافعا شعارات تطبيق الشريعة والتوجه الحضاري الرسالي الذي يهدف إلى توحيد العالم الإسلامي واستعادة أمجاد الخلافة.

وفي إطار هذا التوجه، برز موضوع العلاقة مع الآخر غير المسلم. وكان من ضمن المراجع الموجهة لسياسات النظام الإسلاموي في هذا الخصوص هو وثيقة "العهدة العمرية"، وهي كتاب كتبه الخليفة عمر بن الخطاب لأهل إيلياء (القدس) عندما فتحها المسلمون عام 638 للميلاد يوضح لهم فيه حقوقهم والواجبات التي تقع على عاتقهم.

وقد كتب سعد أحمد سعد، وهو أحد الأعضاء البارزين في هيئة علماء السودان (المرجعية الدينية الحكومية) في هذا الخصوص معلقا على شكوى شخص مسيحي من هدم السلطات الحكومية لكنيسة في ضاحية أمبدة بالخرطوم: "إن الأمر معروف ومضمن في الشروط العمرية وهو منع استحداث كنائس في بلاد المسلمين، أو البلاد المفتوحة".

وهو في حديثه أعلاه يشير لنص العهدة العمرية المنسوب لعبد الرحمن بن غنم، والذي قال فيه: "كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب".

الحجج التي تسوقها الحكومة لتبرير هدم الكنائس من شاكلة أنها شيدت بطريقة عشوائية ليست سوى تبريرات واهية 

​​هذه هي إذن الخلفية الفكرية الحقيقية التي تقف وراء السياسات الحكومية الهادفة للاعتداء على الكنائس، ولا عبرة بحجة الحكومة القائلة إن الكنائس شيدت بصورة عشوائية، حيث قامت جماعة متطرفة وبتواطؤ السلطات الحكومية بهدم كنيسة عمرها أكثر من مائة سنة في حي "الجريف غرب" العريق بالخرطوم في عام 2012 ولم يستطع أصحابها إعادة بنائها حتى اليوم رغم إحاطة الحكومة بتفاصيل الحادثة.

وحتى إذا افترضنا جدلا صحة ادعاء الحكومة بأن هذه الكنائس قد شيدت بطريقة غير قانونية، فإن هذا يقودنا إلى التساؤل عن مغزى رفض السلطات منح المواطنين المسيحيين التراخيص اللازمة عندما يقدمون طلبا لتشييد كنيسة؟ ولن نجد الإجابة إلا في تلافيف المرجعيات الفكرية للنظام الحاكم والتي أشرنا إليها أعلاه.

اقرأ للكاتب أيضا: في نقد مفهوم البيعة عند الإخوان المسلمين (2)

إن المأزق الحقيقي للنظام الإسلاموي السوداني يتمثل في انطلاقه من أفكار وممارسات مستدعاة من خزانة التراث ويراد لها أن تطبق لحل قضايا ومشاكل الوقت الراهن دون مراعاة للفروقات والتطورات الزمنية، ودون إعمال العقل في النظر لتلك الأفكار لمعرفة مدى مواءمتها لأحوال العصر.

عندما كتبت العهدة العمرية كان العالم في نظر المسلمين ينقسم إلى فسطاطين: دار الإسلام ودار الكفر. وكان العرف السائد في العلاقة بين الطرفين هو أن يملي المنتصر شروطه على المهزوم. وفي هذا السياق جاء فرض الجزية وتطور فقه المعاملات مع غير المسلمين، ومن ضمن ذلك شروط بناء دور العبادة.

أما وقد تبدلت الأحوال بعد مرور مئات السنين، فإنه يتوجب على حكام السودان وعلى عضو هيئة العلماء المذكور أن يدركوا أننا نعيش في عصر استحدث مفهوم "الدولة/الأمة" الذي لم يك معروفا في زمن صدور العهدة العمرية، وهي دولة تنبني فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو النوع.

ومن المعلوم أنه في ظل هذه الدولة لا يتم النظر في طلبات تشييد دور العبادة من منطلق عقيدة دينية محددة، بل إن الأمر برمته يقع في إطار الترتيبات الإدارية التي تنظر فيها السلطات المحلية ومن ثم تصدر تصديقا بالبناء شأنه شأن كل مكتبة عامة أو ملعب أو مدرسة.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.