الرئيس السيسي ليس رجلا مواربا؛ والأمور بالنسبة له إما أبيض أو أسود (أ ف ب)
الرئيس السيسي ليس رجلا مواربا؛ والأمور بالنسبة له إما أبيض أو أسود (أ ف ب)

بقلم نيرڤانا محمود/

 "أنا مش سياسي بتاع كلام"، لفت نظري هذا الجزء من خطاب الرئيس السيسي في افتتاح حقل "ظهر" للغاز في شهر يناير الماضي، لأنه يعكس رؤية الرئيس السيسي لنفسه ولمصر.

عندما ألقي القبض على العديد من الشخصيات السياسية في مصر، بما في ذلك رئيس أركان الجيش السابق سامي عنان، والرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة، والمرشح السابق للرئاسة أبو الفتوح، رأى كثيرون في هذه الاعتقالات مؤشرا على أن الرئيس المصري يلاحق خصومه. لكن هذا التفسير ليس دقيقا بالضرورة. لم يكن أي من هذه الأسماء ليشكل تهديدا حقيقيا للرئيس المصري. المشكلة أعمق من ذلك بكثير. رجل مصر القوي ليس سياسيا؛ بل يرى نفسه مؤسس دولة، ويعتقد أن المشهد السياسي العام في مصر يضر بهدفه.

كماكتب صامويل تادرس وإريك براون، فـ"الرئيس الذي خرج من الثكنات لا يمقت الديموقراطية فحسب، كما يوحي البعض، بليمقت الممارسة السياسة أيضا، بما أنه يزدري المفاوضات والتسويات، وعقد الصفقات".

الرئيس السيسي ليس رجلا مواربا أو رماديا ؛ والأمور بالنسبة له إما أبيض أو أسود. يعتبر السيسي فكرة النظام نصف الاستبدادي، التي كان يتبناها السادات ومبارك، علامة ضآلة سياسية وحكم فاشل. لذلك، فإن هدف السيسي، على عكس سَلَفيه، هو بناء دولة سلطوية جديدة مرجعيتها الجيش، معززة بسياسات اقتصادية رأسمالية مرنة، ولكن بغياب كامل للحياة السياسية.

قد يكون هذا النموذج مستندا إلى نظام الحكم الصيني الرأسمالي الشمولي، أو ربما إلى نظام حكم البرتغالي أنطونيو دي أوليفيرا سالازار القائم على استبدادية رأسماليه محافظة. وكما ذكر ماجد عطية في تغريدة على تويتر، فإن المقرر التعليمي حول التنمية السياسية والاقتصادية في الكلية العسكرية المصرية يتضمن إطراء لسياسة سالازار.

ولكن بغض النظر عن النموذج الذي يفضله الرئيس المصري، ثمة سؤال أكثر إلحاحا يتوجب طرحه: هل يمكن للرئيس أن ينجح في تجميد السياسة في مصر وإلى متى؟

إن مفهوم الدولة القائمة على الجيش ليس جديدا على مصر. ويمكن القول إن هذا هو المفهوم الذي ولدت من خلاله مصر الحديثة في فترة محمدعلي، واستمرت حتى هزمت القوات البريطانية جيش مصر في عام 1881. وكذلك كانت مصر عبد الناصر حتى هزيمة 1967. ويستذكر المصريون هاتين الفترتين بحنين كبير. إن إعادة إنتاج مثل هذه الدولة القوية حلم يداعب خيال قطاع عريض من المجتمع المصري، قد لا يكونون من المعجبين بالسيسي، لكنهم على الأقل يفهمون حلمه.

وعلاوة على ذلك، فإن الرئيس السيسي، كما لمّح في خطابه، يعتبر خصومه السياسيين مجموعة من الثرثارين الذين عادة ما يكون نباحهم أسوأ من عضتهم. إن خصوم السيسي هم إسلاميون مدفوعون برغبة عمياء لتطبيق إيديولوجية عابرة للحدود، وهم بطبيعتهم معادون لفكرة الدولة المتفردة القائمة بذاتها، أو أنهم جماعات غير إسلامية مشتتة تتبنى فكرة "أي شخص عدا السيسي"، والتي يراها كثير من المصريين كوصفة لحكم غوغائي، وليس لديموقراطية واعدة.

مع ذلك، فإن من المستبعد جدا أن يستمر تجميد المشهد السياسي في مصر، لأسباب عدة:

أولا: إن الدولة التي تعتمد على الجيش ستكون دائما عرضة لنتائج المغامرات العسكرية التي قد تقوم بها قيادتها. وكما ذكرت آنفا، فقد تعرض كل من محمد علي وعبد الناصر لهزائم عسكرية مدمرة كانت لها آثار سلبية هائلة على الحياة السياسية في مصر. وعلاوة على ذلك، تواجه مصر في ظل حكم السيسي العديد من التحديات التي لم يواجهها محمد علي ولا عبد الناصر. وعلى الرغم من أن السيسي ليس لديه أي رغبة في أي معركة عسكرية لا يستطيع تحمل أوزارها، فإن أزمة المياه مع إثيوبيا والنزاع حول حقل الغاز في البحر الأبيض المتوسط يمكن أن تشعل فتيل مواجهات عسكرية، يكون لها عواقب سلبية محتملة.

ثانيا: قد لا تحتاج السلطة الاستبدادية الناجحة إلى قبول جماهيري، ولكنها تعتمد بشكل كبير على ثقة الجمهور. ويمكن لثقة كهذه أن تتقوض بسهولة وسط مناخ مزدهر في مصر. سياسة سحق الخصوم خلقت مناخا يسوده التضليل والشائعات والتخمينات التي لا أساس لها. فعلى سبيل المثال، تم تأويل اعتقال رئيس أركان الجيش السابق سامي عنان بعدما أعلن نيته الترشح للرئاسة، على أنه علامة على حصول تمرد بين كبار قادة الجيش. هذه التكهنات التي لا أساس لها من الصحة، وإن كانت غير صحيحة، تكفي لزرع بذور الشك بين المصريين المتوجسين.

ثالثا: يختلف المجتمع المصري عن البرتغال خلال عهد سالازار. صحيح أن الإسلاموية الاجتماعية المحافظة تزدهر على نار هادئة في مصر، إلا أنها سيف ذو حدين بالنسبة للنظام. فمن ناحية، يعد المجتمع الديني المتزمت أكثر تسامحا تجاه حكم الفرد؛ ولكن من ناحية أخرى، فإن معظم المصريين الخبراء في الأعمال التجارية ليسوا بالضرورة من أتباع الإسلاموية. هم يطمحون إلى مجتمع أكثر تحررا على المستوى الاجتماعي. نموذج سالازار الاقتصادي قد يستهوي كثيرين في مصر، ولكن ليس نموذجه الاجتماعي المحافظ. وقد يسبب هذا التناقض مشاكل للنظام ويجبره على تخفيف قبضته الاستبدادية.

قبيل الانتخابات، نجح الرئيس المصري في تجميد المناخ السياسي في مصر، ومع ذلك، سيدرك الرئيس المصري عاجلا أم آجلا، كما أدرك السادات ومبارك من قبله، أنه لن يستطيع تحمل تبعات تجميد السياسة في مصر إلى الأبد.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.