اعتصام أمام السفارة الإيرانية في بريطانيا للمطالبة بإطلاق سراح  نازانين زاغاري-راتكليف (أ ف ب)
اعتصام أمام السفارة الإيرانية في بريطانيا للمطالبة بإطلاق سراح نازانين زاغاري-راتكليف (أ ف ب)

بقلم حسين عبد الحسين/

مذهلة هي كمية النفاق والكذب التي تبثها الدعاية الإيرانية. ثماني صفحات من النسخة الإنكليزية لصحيفة كيهان المقربة من النظام الإيراني كافية لتقديم كمية هائلة من التزوير والحقد الذي تبثه الجمهورية الإسلامية. في كل مقالة، تحريض ضد الولايات المتحدة، واتهامها بنشر الإرهاب في العالم، والحرص على تقسيم الشعوب. حتى في الصفحة الاقتصادية، مقالة تتوقع نجاح روسيا والصين في تعزيز احتياطيهما من الذهب لتقويض الدولار الأميركي كعملة العالم.

في افتتاحية الصحيفة اتهام إيراني لأميركا برعاية الإرهاب في سورية وتقويض مجلس الأمن الدولي. يكتب محررو الصحيفة الإيرانية، من دون أن يلاحظوا بلاهة المفارقة التي يقدمونها، أن واشنطن دعمت، على مدى ثماني سنوات، نظام الأقلية البعثية في العراق في حربه على إيران، وأن أميركا تدعم اليوم بالطريقة نفسها إرهابيي سورية. لا يلاحظ المحررون الإيرانيون أن نظامهم يساند الأقلية البعثية في سورية.

ثم تتهم الصحيفة الولايات المتحدة بالتلاعب بمجلس الأمن، وتقول إن أميركا لم تستصدر قرار وقف إطلاق نار في مجلس الأمن أثناء الحرب العراقية الإيرانية إلا بعدما بدأت القوات الإيرانية تحقق انتصاراتها ضد العراقيين. لكن "سيد العصر" روح الله الخميني رفض القرار، مرددا أن "السلام المفروض أسوأ من الحرب المفروضة". ثم فشل "الاستكبار العالمي"، وانتصرت الجمهورية الإسلامية في حرب السنوات الثمان، حسب الصحيفة.

التاريخ ليس أسود وأبيض كما يعتقد بعض ليبراليي الغرب، والتاريخ حتما ليس مزورا كما يقدمه النظام الإيراني

​​كيهان لا تكذب فحسب. كيهان تزور التاريخ. إيران لم تنتصر في حربها ضد العراق، والخميني وافق في العام 1988 على قرار مجلس الأمن رقم 598 القاضي بوقف إطلاق النار، وشبه خطوته بتجرع السم. الرواية الرسمية الإيرانية عن الحرب مع العراق هي كذب في كذب.

اقرأ للكاتب أيضا: هارفرد تستعيد 'الآيات الشيطانية'

وكما تكذب الجمهورية الإسلامية عن حربها مع العراق، وعن أحداث سورية، كذلك تكذب حول أحداث الكوريتين. حسب الصحيفة الإيرانية، تشعر واشنطن بالاستياء لتوحيد الكوريتين وفديهما أثناء الألعاب الأولمبية لأن الولايات المتحدة ترغب في رؤية الشعب الكوري منقسما وفي حالة حرب حتى تبقي على قواعدها العسكرية الضخمة في كوريا الجنوبية. لا يفيد أن لا كوريا الجنوبية وحدها، بل اليابان والفليبين وأستراليا، كلها عاتبت الولايات المتحدة وطالبتها بتعزيز قوتها العسكرية لمواجهة صعود الاستبداد الصيني واستيلائه على مساحات بحرية أوسع مع مرور الأشهر. لكيهان روايتها الخيالية التي تتمسك بها.

أكاذيب إيران ليست سطورا في جريدة تابعة للنظام، بل هي دعاية يصدقها كثيرون، خصوصا من ليبراليي الغرب ممن يصرون أن الامبريالية هي سبب مصائب الإيرانيين، وأن التاريخ بدأ مع الانقلاب على حكومة محمد مصدق في الخمسينات.

يعتقد الكثيرون اليوم أن الخميني وصدام كانا عدوين منذ الأزل، فيما الحقيقة هي أن صدام ساهم في رعاية وإطلاق حركة الخميني في بداياتها

​​لكن قصة الانقلاب على مصدق، مثل قصص إيران الكثيرة، انتقائية. مثلا، يعتقد الكثيرون اليوم أن الخميني وصدام كانا عدوين منذ الأزل، فيما الحقيقة هي أن صدام ساهم في رعاية وإطلاق حركة الخميني في بداياتها كجزء من مواجهة صدام شاه إيران، ويوم حاضر الخميني عن الحكومة الإسلامية ونشرها في كتاب، كان ذلك في النجف تحت عيون ورعاية استخبارات صدام الساهرة. ولم يتخل صدام عن الخميني إلا يوم أجبره شاه إيران محمد رضا بهلوي على توقيع اتفاقية الجزائر لتفادي هزيمة عراقية عسكرية كانت مؤكدة.

اقرأ للكاتب أيضا: لماذا يكره العالم أميركا؟

ثم عاد الخميني إلى إيران برعاية غربية، واتصل قادة الثورة بمسؤولي إدارة الرئيس السابق جيمي كارتر، مثل في لقاء مهدي بازركان ومستشار الأمن القومي الأميركي الراحل زبيغنيو بريزينسكي في الجزائر. ولم ينقلب الخميني على أميركا ويعلنها شيطانا أكبر إلا بعدما شعر بالتفاف "حزب تودة" الشيوعي الإيراني عليه، فالتف الخميني باقتحام أنصاره السفارة الأميركية لاستقطاب قاعدة الشيوعيين المعادين لأميركا، وأعلنها عدوا لإيران. وفي العام 1986، فيما كان الخميني ما يزال مرشدا للثورة، زار بد ماكفرلين، مستشار الأمن القومي للرئيس الراحل رونالد ريغان طهران سرا، والتقى شابا ثوريا اسمه حسن روحاني، في مناورة إيرانية للحصول على سلاح ضد صدام.

اليوم، يكرر الإيرانيون، ويصدقهم غربيون كثيرون، أن طهران لا تكذب في برنامجها النووي، وأن جل ما تفعله هو ممارسة "حقها" النووي. طبعا، لا تقول إيران إنها كانت تبني مفاعل فوردو النووي الجبلي المحصن سرا، وإن المفاوضات لم تكن لتجري لو لم تكتشف الاستخبارات الغربية الخديعة الإيرانية.

التاريخ ليس أسود وأبيض كما يعتقد بعض ليبراليي الغرب، والتاريخ حتما ليس مزورا كما يقدمه النظام الإيراني، وهو ما يدفعنا للتساؤل: إن كانت أحداث جرت في الماضي القريب الذي ما يزال حيا في ذاكرة كثيرين قد تم تحويره على هذا الشكل، فما هي نسبة الكذب في التاريخ الذي وصلنا من ماض أبعد، وكم عمر الدعاية والكذب الذي يبدو أنه تقليد يلازم حكام إيران، وحكام دول كثيرة أخرى؟ وكيف يمكن لغير العارفين تمييز الواقع من الوهم؟

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.