سيارة شرطة مصرية تحترق بعد اشتباكات مع مناصري الإخوان المسلمين (أرشيف)
سيارة شرطة مصرية تحترق بعد اشتباكات مع مناصري الإخوان المسلمين (أرشيف)

بقلم بابكر فيصل بابكر/

تناولت في مقال سابق الأثر السلبي الذي تلعبه الطاعة المطلقة التي تنادي بها بيعة الإخوان المسلمين في جعل عضو الجماعة مسلوب الإرادة ومنقادا للقيادة بالكامل.

ويكتمل الأثر السلبي للطاعة المطلقة من خلال الركن الخامس في البيعة الإخوانية، والمتمثل في "الثقة" التي يقول عنها البنا: "وأريد بالثقة: اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة".

ويضيف البنا "وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبیة، والأستاذ بالإفادة العلمیة، والشیخ بالتربیة الروحیة، والقائد بحكم السیاسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا، والثقة بالقیادة هي كل شيء في نجاح الدعوات".

قد أثبتت التجربة العملية أن الثقة المطلقة التي يمنحها البنا للقيادة في إطار الجماعة والتي تنبني في الأساس على الرابطة القلبية والعاطفية وليس العقلانية والموضوعية، تتحول إلى نوع من التقديس لتلك القيادة، ما يجعل الكادر يغض الطرف عن أخطائها بل وخطاياها التي تؤدي إلى الإنحراف الكامل وتمهد الطريق إلى تحول تلك القيادة إلى طغمة مستبدة أو فرد طاغية في خاتمة المطاف.

عضو الجماعة لا يستطيع الضحك كما يرغب، فهو محكوم بمنهج صارم يكبت الرغبات والميول الإنسانية الطبيعية ويقتل المواهب، ويحصر الطاقات والجهود في كل ما من شأنه خدمة مصلحة وأهداف الجماعة 

​​وكذلك تؤكد الدراسات النفسية والإدارية الحديثة أن الطاعة والثقة المطلقة في القيادة تؤدي لا محالة إلى تركيز القرار في أيدي حفنة من الأفراد، ما يزيد من احتمالية ارتكاب الخطأ والانحراف عن الأهداف، ولذا فإن دور القيادة وسلطتها في الأحزاب والمنظمات السياسية المفتوحة ـ رغم أهميته ـ بات مقيدا بدرجة كبيرة في مقابل تزايد أدوار وصلاحيات الأعضاء.

اقرأ للكاتب أيضا: في نقد مفهوم البيعة عند الإخوان المسلمين (1)

ترتبط بأركان البيعة التي ناقشنا خمسة منها، واجبات تبلغ في مجموعها 38، ويقول البنا مخاطبا عضو الجماعة العامل "إن إیمانك بهذه البیعة یوجب علیك أداء هذه الواجبات حتى تكون لبنة قویة في البناء". انتهى

وسأكتفي لأغراض هذا المقال بإيراد بعض هذه الواجبات، ومنها ثلاثة مرتبطة ببعضها البعض، وهي "أن تزاول عملا اقتصاديا مهما كنت غنيا، وأن تقدم العمل الحر مهما كان ضئيلا، وأن تزج بنفسك فیه مهما كانت مواهبك العملية" و"ألا تحرص على الوظیفة الحكومیة، وأن تعتبرها أضیق أبواب الرزق ولا ترفضها إذا أتیحت لك، ولا تتخل عنها إلا إذا تعارضت تعارضا تاما مع واجبات الدعوة" و"أن تخدم الثروة الإسلامية العامة بتشجیع المصنوعات والمنشآت الاقتصادیة الإسلامیة، وأن تحرص على القرش فلا یقع في ید غیر إسلامیة مهما كانت الأحوال، ولا تلبس ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي".

هذه الواجبات تعكس حرص الجماعة الشديد على تجميع المال كمصدر من مصادر القوة، مع زهدها الواضح في الوظيفة العامة، وهذا الحرص مفهوم في إطار تشجيع ثراء الأعضاء بما يدعم قوة التنظيم ويخدم أهدافه، ولكن التجربة العملية ومثالها الأوضح هو نظام حكم الإخوان المسلمين في السودان، أثبتت أن السعي المحموم لدخول السوق سيصبح المدخل الرئيسي للفساد خصوصا في ظل احتكار السلطة من قبل الجماعة.

لا تكتفي الجماعة بالسيطرة على العضو وعزله عن قوى المجتمع المختلفة، بل إنها تعمل على التحكم في أبسط نواحي سلوكه الشخصي

​​أما الحرص على "ألا يقع القرش في يد غير إسلامية" فإن نهايته المنطقية ـ التي تتماشى مع المبادئ المستصحبة في أركان البيعة التي أتينا على نقاشها مبكرا وفي مقدمتها الامتلاك الحصري للحق وتمثيل الإسلام ـ ستكون الحرص على "ألا يقع القرش في يد غير إخوانية" وهو ما رأيناه بالعين في تجربة السودان حيث سيطرت الجماعة بصورة شبه كاملة على مفاصل الاقتصاد ومصادر الثروة في إطار سياسة "التمكين" التي هي بلا شك وليدة هذا النوع من التربية الفكرية.

ومن بين الواجبات التي يقول البنا إنه يتحتم على العضو العامل في إطار الجماعة القيام بها هي: "أن تعمل ما استطعت على إحیاء العادات الإسلامیة وإماتة العادات الأعجمیة في كل مظاهر الحیاة، ومن ذلك التحیة واللغة والتاریخ والزي والأثاث، ومواعيد العمل والراحة، والطعام والشراب، والقدوم والانصراف، والحزن والسرور.. إلخ، وأن تتحرى السنة المطهرة في ذلك".

اقرأ للكاتب أيضا: في نقد مفهوم البيعة عند الإخوان المسلمين (2)

الحديث أعلاه يتعارض مع أبسط ركائز العمل المدني في الدولة الحديثة، وبالطبع في الأحزاب السياسية، حيث أنها تستوعب الناس على أساس المواطنة ودون أدنى اعتبار للانتماءات الدينية والعرقية والطبقية، وبالتالي فإن التحريض على تقسيم الحزب أو الوطن على أساس إسلامي وأعجمي لن تكون محصلته النهائية سوى ترسيخ النعرات الطائفية والانقسام الديني في المجتمع.

كذلك تشمل تلك الواجبات التالي: "أن تقاطع المحاكم الأهلیة وكل قضاء غیر إسلامي، والأندیة والصحف والجماعات والمدارس والهیئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة" و"أن تتخلى عن صلتك بأیة هیئة أو جماعة لا یكون الاتصال بها في مصلحة فكرتك وخاصة إذا أمرت بذلك".

هذان الواجبان يهدفان إلى إحكام سيطرة القيادة على العضو بحيث يقع فريسة لما يعرف في علم النفس "بالحرمان الحسي" الذي يعني عزل الكادر عن كل ما يحيط به ويصبح التنظيم هو المصدر الوحيد الذي يتلقى عنه كل شيء، وخطورة هذه الحالة أنها تخلق عقلا منغلقا عاجزا عن التواصل مع مختلف القوى المجتمعية ولا يرى فيها إلا عدوا لجماعته وفكرته.

ولا تكتفي الجماعة بالسيطرة على العضو وعزله عن قوى المجتمع المختلفة، بل إنها تعمل على التحكم في أبسط نواحي سلوكه الشخصي، إذ يوجه البنا في أحد الواجبات العضو لأن "تكون وقورا تؤثر الجد دائما، ولا یمنعك الوقار من المزاح الصادق والضحك في تبسم".

إذن عضو الجماعة لا يستطيع الضحك كما يرغب، فهو محكوم بمنهج صارم يكبت الرغبات والميول الإنسانية الطبيعية ويقتل المواهب، ويحصر الطاقات والجهود في كل ما من شأنه خدمة مصلحة وأهداف الجماعة فحسب.

وهو كذلك لا يملك حرية الاختيار والتصرف بمعزل عن قيادته، فالبنا يقول له إن واجبك "أن تعمل على نشر دعوتك في كل مكان وأن تحیط القیادة علما بكل ظروفك ولا تقدم على عمل یؤثر فیها جوهریا إلا بإذن، وأن تكون دائم الاتصال الروحي والعملي بها، وأن تعتبر نفسك دائما جندیا في الثكنة تنتظر الأوامر".

الواجب الأخير أعلاه يعطينا صورة واضحة وتعريفا دقيقا لوضع العضو داخل جماعة الإخوان المسلمين، فهو ليس سوى جندي داخل ثكنة عسكرية لا يستطيع التحرك إلا وفقا لأوامر صادرة عن القيادة، وليس عضوا مبادرا صاحب رأي في إطار منظومة سياسية تختلف فيها الرؤى وتتصارع بطريقة ديموقراطية من أجل الوصول للقرار الأخير.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.