طفل يعاني من صعوبة في التنفس بعد غارات للنظام السوري (أ ف ب)
طفل يعاني من صعوبة في التنفس بعد غارات للنظام السوري (أ ف ب)

بقلم حازم الأمين/

ما يضاعف مأساة حرب الإبادة التي يخوضها النظام السوري على أهل الغوطة الشرقية لدمشق، هو أن من يتولى الدفاع عن الغوطة، من دون الدفاع عن أهلها، هم أشرار أيضا. فعلى رأس المدافعين عن الغوطة هو "جيش الإسلام" التنظيم الذي أسسه إرهابي اسمه زهران علوش.

النظام يخوض فعلا حرب إبادة، ذاك أن خطاب الحرب الذي يعتمده لا أثر فيه لمدنيين. الكل أهداف لغاراته، وصور الأطفال والنساء والرجال القتلى ليست القرينة الوحيدة على ذلك. يجب ألا ننسى أن هذا النظام سبق أن قصف نفس المنطقة بغاز الكلور، وهذا مؤشر كاف للقول إننا حيال حرب إبادة حقيقية. ناهيك عما يرافق غارات الطائرات من حملات "سوشيال ميديا" داعية لـ "قتل أطفال الإرهابيين".

أهل الغوطة مخيرون بين نصر نظام مجرم وبين صمود مقاتلين أشرار سبق أن أطلق النظام زعيمهم من السجن ودفعه لتزعم المنتفضين عليه ولتحويل انتفاضتهم حربا. والرجل نفسه اختطف وجوها مدنية للانتفاضة السورية وما زال تنظيمه يخفيهم.

الأرجح أن العالم سلم بحقيقة فشله في إسقاط بشار الأسد، وأن ما تشهده الغوطة هو صورة عن هذا التسليم

​​الدماء المراقة في الغوطة صورة عن حال من الاستعصاء وانعدام الأفق. المتحاربون في محيطها أوغاد، ونحن إذ نتعقب أصوات الغوطة المنبعثة من كومبيوتراتنا، نحتسب الأمتار التي تقدم النظام المجرم إليها في حملته، والتي انسحب منها المقاتلون الأوغاد، فأي دوامة هذه وأي اختناق.

اقرأ للكاتب أيضا: ثلث قرن على تمثيل حزب الله وأمل الشيعة في البرلمان

لا أفق لحرب الغوطة، فالمدينة في طريقها لأن تصير ركاما، والمشهد من حولها يلفه صمت لا تخرقه أصوات الطائرات. المرصد السوري لحقوق الإنسان "المعارض" يحصي قتلى من دون وجوه، ويحتسب كل متر يتقدم النظام إليه. العالم لا يبدي اهتماما، فيما الصحف الموالية للنظام تسجل "الانتصارات" وتطلق وعودا بمزيد منها. لا قيمة للأخبار الموثقة. بالأمس سقط 140 قتيلا تقدمهم في الخبر السوري الذي نشرته الجريدة القطرية الجديدة تصريح لرجب طيب أردوغان عن عفرين وعن "الجهاد" في عفرين. والجريدة فعلت ذلك ليس لأنها تحب أردوغان أكثر من الغوطة، بل لأن الغوطة صارت رقما. القتال هناك لن يفضي إلى غير الهزيمة، والأخيرة لم تعد خبرا.

الأرجح أن العالم سلم بحقيقة فشله في إسقاط بشار الأسد، وأن ما تشهده الغوطة هو صورة عن هذا التسليم. لكن تأخذنا المجزرة هناك إلى سؤال هذا العالم عن ثمنان للهزيمة دفعهما السوريون دون غيرهم. بقاء النظام من جهة وفناء الغوطة وأهلها من جهة أخرى.

أينما حاول المرء أن يصل فكرة بفكرة حول الغوطة وحول سورية سيصطدم باستعصاء رهيب. المفاضلة بين البعث وبين جيش الإسلام، وبين الموت وبين إعلان الاستسلام لنظام لا يريد سوى موت المستسلمين، وبين هزيمة لا تقل عن هذا الموت.

المنتصر مهما كانت هويته سيكون قاتلهم، وهم اليوم إذ يرقدون بين قاتل راهن وقاتل مؤجل يحرجوننا بصور وجوههم التي لم يبق بحوزتهم غيرها

​​أهل الغوطة يصورون موتهم ويرسلونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن لا وظيفة لهذا الفعل. وجوه الأطفال التي يعلوها طبقات من الركام والغبار لم تعد تثير فينا أكثر من شعور بالخيانة، وبأننا عجزة. لا بل بدأ ينتابنا، نحن الناجون، شعور بأن الضحية ملحاحة وأن المستغيث يبالغ بالخوف من اقتراب الموت من وجهه. آخرون منا باشروا البحث عن موقع الضحية من الجريمة وعما إذا كانت بريئة من جريمة قتلها.

القول إن المدافعين عن الغوطة هم قوى أهلية على رغم ظلاميتهم، فيما القوة المهاجمة هي قوة عدوان واحتلال يضع واحدنا بين خيارين لا يملك ترف القبول بأحدهما. قوة تريد فناء الغوطة وقوة فرضت الظلام عليها. فهل من انسداد وجحيم أوضح.

اقرأ للكاتب أيضا: النُعاس الذي يرافق ارتكاب الجريمة في الغوطة

هذا الهذيان هو السبيل الوحيد للتفكير بأهل الغوطة. فالمنتصر مهما كانت هويته سيكون قاتلهم، وهم اليوم إذ يرقدون بين قاتل راهن وقاتل مؤجل يحرجوننا بصور وجوههم التي لم يبق بحوزتهم غيرها. فالصور هي خيبتنا وفشلنا، وهي القرينة الثابتة على أن لا مكان لغير الشر ولا منتصر غيره، وأننا تماما مثل هذا المنتصر الشرير باشرنا نحصي خلف المرصد السوري لحقوق الانسان "المعارض" المسافة المترية التي قطعتها قوات النظام نحو قلب الغوطة.

علينا أن نتمنى أن ينجز النظام المهمة بأسرع وقت ممكن. العالم كله وضعنا أمام هذا الموقف المستحيل! فأي انهيار هذا الذي يمكن أن يدفع إلى هذا الانتظار؟ فربما نتسبب بنجاة طفل واحد إذا ما أقدمنا عليه. أن ينجو طفل واحد في الغوطة أقل فشلا من أن لا ينجو أحدا. يجب أن نباشر إحصاء نجاحنا على هذا النحو. صحيح أن النظام أقدم على إفناء الغوطة، لكننا نجحنا في تجنيب طفل واحد الموت.

ربما علينا نحن الناجين أن لا نكلف أنفسنا بما هو أكثر من ذلك. فالغوطة محاصرة بأوغاد مثلهم، وبعجزة مثلنا يشيحون بوجوههم عن صورها.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.