لاجئ سوري من دير الزور (أ ف ب)
لاجئ سوري من دير الزور (أ ف ب)

بقلم حازم الأمين/

من فضائل الانتفاضة السورية، التي لم تطحها الحروب التي أعقبت هذه الانتفاضة، أنها تولت تعريفنا بسورية، أو كشفت لنا سورية التي لم نكن نعرف عنها أكثر من أحياء في دمشق وفنادق ومطاعم في حلب. كان "الأبد" مزروعا في وعينا بهذا البلد. نظام البعث عطل رغبتنا في معرفة سورية، وفي البحث عنها. هنا أنا أتكلم عن نفسي. كنت صحافيا معنيا ببلدان أبعد عني من سورية. فهل يعقل مثلا أن أعرف أنا اللبناني عن قبائل البشتون المنتشرة بين باكستان وأفغانستان أكثر من معرفتي بعشائر دير الزور؟

هذه كانت حالي، أنا الذي لطالما قطعت الصحراء السورية لأعبر إلى العراق الذي غطيت حروبه من أواخر تسعينات القرن الفائت وحتى اليوم. وأذكر أنني حين كنت أعبر تلك الصحراء، أو ما يسمى "بر الشام"، إلى القامشلي أو إلى البوكمال ومنها إلى العراق، لم تكن تلك الجغرافيا بالنسبة لي جغرافيا سياسية أو اجتماعية.

كان انتباهي معطلا، وكانت الطريق الطويلة مجرد زمن عليّ أن أعبره لأصل إلى قصتي في العراق. ولاحقا فكرت كثيرا بأسباب هذا العقم الذي أصاب مداركي، ولم أجد سوى سبب واحد، فقد كنت مواطنا في دولة البعث. النظام السوري كان يحتل بلدي في حينها، وهو من جعل من هذه الجغرافيا الهائلة في وعيي، مجرد فراغات لا قصص فيها يمكن أن يبنى عليها تصور آخر غير تصور البعث وقصصه.

يبدو أن التشيع، أو تبديل شرائح عشائرية مذاهبها ليس مهمة صعبة، في ظل ضعف التقليد الديني في هذه البيئات

​​الانتفاضة السورية أخرجت، من بين ما أخرجت من الجعبة السورية، قصص أهل الجزيرة وقذفتها في وجوهنا. وأذكر أن أكثر ما هالني حين قصدت ريف دير الزور في السنة الفائتة مثلا هو افتراق أهل هذه المناطق عن سوريين آخرين لهجة ومزاجا وطموحا، واقترابهم من العراقيين ومن أمزجتهم ولهجاتهم وتطلعاتهم.

بدت لي المنطقة معطية ظهرها لسورية ووجهها للعراق. وهذه الحقيقة سهلت مهمة التنظيمات "الجهادية" إلى حد بعيد، ذاك أن تنظيمي "داعش" و"النصرة" وجدا أثناء إلغائهما الحدود بين سورية والعراق ليس استجابة محلية وحسب إنما أيضا قدرا من الانفعال العاطفي ومن الوقائع الثقيلة التي "توجب" إلغاء هذه الحدود. فدير الزور عاشت عراقية في سورية، ولم ينلها من هذا الكيان سوى بعده الأمني. وينسحب هذا على معظم محافظات الشرق والشمال السوري وإن على نحو متفاوت.

اقرأ للكاتب أيضا: ثلث قرن على تمثيل حزب الله وأمل الشيعة في البرلمان

أطلقت "داعش" على دير الزور اسم "ولاية الخير"، وهي قصدت من وراء هذه التسمية الإشارة إلى حقول النفط في هذه المحافظة السورية، وهي إشارة لا تخلو من رغبة في تذكير أهل المنطقة بأن النفط لم يكن جزءا من علاقتهم بالنظام، فالأخير لم يلحظ في استثماراته النفطية في هذه المحافظة أي خطط يكافئ فيها أهل المنطقة على أخذه ثرواتهم. لكن معادلة النظام ـ النفط كان أول ما انهار في أعقاب سقوط النظام مباشرة، وقبل قدوم "النصرة" ومن بعدها "داعش"، فعشائر دير الزور، وفصائلها المسلحة استولت على حقول النفط، وصار لكل عشيرة بئرها الذي تبيع نفطه وتوزعه على زعمائها وميليشياتها.

لكن عشائر دير الزور هي وحدات اجتماعية عابرة للحدود، وهنا لا نتحدث عن الحدود مع العراق فقط، إنما وصلت الامتدادات العشائرية إلى دول الخليج أيضا، وتحديدا إلى السعودية والكويت.

وفي الوقت الذي كان فيه النظام منهمكا بنفط المنطقة وغير مكترث أو راغب في مد جسور دولته إلى المنطقة، كانت العشائر مستمرة في تواصلها مع عمقها في الخليج، إلى أن جاءت الانتفاضة فحررت العشائر من سورية وألحقتها بعمقها العراقي والخليجي.

وصل أمراء "النصرة" السوريون من مغترباتهم الخليجية، فيما تولت أفخاذ عراقية تسريب "داعش" إلى "ولاية الخير". وفي هذا الواقع اشتغلت مآس كثيرة. فالمجزرة التي ارتكبها تنظيم الدولة بعشيرة الشعيطات والتي وصل عدد ضحاياها إلى نحو ألف من أبناء العشيرة كانت بدايتها تنافس على آبار النفط. والشعيطات إذ طلبت النجدة من عشائر الجوار ولم تنلها، يعيد مشايخ منها "خذلان" العشائر لها إلى عهود استسلام أبرمتها هذه العشائر مع "داعش" كانت ثمرة هزيمة ألحقها التنظيم بـ "النصرة" وبعشائر بايعتها، وبأمراء سوريين قدموا من السعودية وبايعوا "النصرة" وهزموا واستسلموا لـ"داعش" وخذلوا الشعيطات.

لم تكن مهمة التنظيم صعبة. النظام هيأ له كل شروط النجاح، وكل مناخات الجريمة

​​لمتعقب ومتقصي تنظيم "داعش" يبدو هذا المشهد عراقيا أكثر منه سوريا. فالعشائر والنفط وصدام حسين بصفته الرجل النموذج لهذه الجماعات في الصحراء السورية، عناصر في مشهد لم يكن يوما جزءا من فكرتنا عن سورية. النظام في ذلك البلد حجب عن سورية حقائق على هذا القدر من الثقل. كما أنه وعلى مدى خمسين عاما لم يطرح على نفسه مهمة تقريب أهل الدير من سورية. جاء "داعش" وقبله "النصرة"، وسرعان ما أعادا وصل الصحراء ببعضها، فيما العشائر على طرفي الحدود كانت متروكة لانهياراتها.

لم تكن مهمة التنظيم صعبة. النظام هيأ له كل شروط النجاح، وكل مناخات الجريمة. الناس هناك كانوا يعيشون بين دولة بعيدة تسرق ثرواتهم ولا تكترث لأبسط حاجاتهم، وبين ولاءات العشيرة السابقة على وجود الدول.

جاءت الطفرة النفطية في الخليج لتضيف عنصر اغتراب جديد. فقد توجه آلاف من أبناء الجزيرة ودير الزور إلى دول الخليج وكان أقرباؤهم في هذه الدول وسطاء بينهم وبين بيئات العمل والاستثمار والتدين في إمارات الخليج وممالكه. وكثير من هؤلاء نجحوا في الحصول على جنسيات البلدان التي انتقلوا إليها.

اقرأ للكاتب أيضا: النُعاس الذي يرافق ارتكاب الجريمة في الغوطة

وما أن بدأت الانتفاضة وانهارت أجهزة السلطة والنظام في محافظات الشرق والشمال السوري حتى عاد عشرات من هؤلاء إلى سورية وشكلوا نواة جماعات "الجهاد"، لا سيما "جبهة النصرة"، مستفيدين من علاقات مسجدية راكموها في الخليج مع جماعات مرتبطة بالقاعدة أو بجماعات سلفية وإخوانية موازية.

أما "داعش" القادم من العراق، والمتدفق على مدن وبوادي الشرق السوري فكان غازيا في البداية، لكن الأمر استتب له بعد هزمه العشائر ونيله بيعتها. وهو إذ أخضع العشائر لم يكن بعيدا عن طبائعها، فخبراته العراقية على هذا الصعيد كبيرة، وهو قدم أمراءه من غير أهل المشرق في حروب الإبادة وتولى أمراؤه العراقيين والسوريين المفاوضة والمساومة وتخليص شروط الاستسلام.

اليوم هزم "داعش" في شرق سورية وفي شمالها، لكن ندوبا كثيرة تركها التنظيم هناك. العلاقة بين العشائر مرشحة لانفجارات كبرى بفعل الهزائم وبفعل حجم المآسي التي خلفها التنظيم. والمشهد هناك أعقد من ضبطه بفكرة أو بتوقع، فلا يمكن الحسم في أننا في مرحلة ما بعد "داعش"، كما لا يمكن ضبط الرغبات الانتقامية، وهذه في البيئة العشائرية في صلب الهموم والطموحات.

أما صورة الهزيمة الأبرز اليوم فهي مسارعة إيران للاستثمار في هذا الفراغ عبر دعم ميليشيات محلية ستكون بمثابة مقدمة لمشاريع كان سبق أن باشرتها طهران قبل الانتفاضة السورية في تلك المناطق. إذ يبدو أن التشيع، أو تبديل شرائح عشائرية مذاهبها ليس مهمة صعبة، في ظل ضعف التقليد الديني في هذه البيئات. صدام حسين "سنن" عشائر شيعية في العراق، وإيران سبق أن باشرت بإنشاء وبناء حسينيات في مناطق العشائر السورية. وهذه صورة بشعة لـ "نصر" على تنظيم بشع. والمنطقة كلها بطن ولادة لحروب لن يكتب لها أن تنتهي في هذا العالم المحاصر بالأشرار.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.