في مجتماعاتنا نحمل الضحية المسؤولية (أرشيف)
في مجتماعاتنا نحمل الضحية المسؤولية (أرشيف)

بقلم سناء العاجي

"شقة جميلة مضيئة، بصالون رحب وأثاث مريح. الكراء مقابل خدمات".

"سعر الشقق في باريس مرتفع. لديك ميزانية محدودة وتبحثين عن سكن؟ الحل متوفر مقابل خدمات (تنظيف البيت أو خدمات أخرى نحددها لاحقا). اتصلي فورا".

إعلانات متعددة من هذا القبيل، قد يجدها الباحث عن شقة للكراء في فرنسا. عن أي خدمات يتحدث الإعلان؟ تنظيف المنزل؟ الاعتناء بشخص مسن؟ رعاية الأطفال؟ هذه خدمات مقبولة قد يطلبها فعلا بعض ملاك البيوت. لكننا هنا أمام نوع آخر من الاستغلال الجنسي: الكراء مقابل "خدمات جنسية". وهذا واقع فضحه مقال في مجلة ليكسبريس، وهي إحدى المجلات الفرنسية الرصينة. 

المعنيات بهذا الواقع هن نساء في وضعية هشاشة اقتصادية: طالبات فقيرات بمنحة جامعية هزيلة أو مهاجرات بدخل محدود. الكثيرات منهن يرضخن للواقع في غياب إمكانيات مادية تمكنهن من الحصول على سكن (علما أن معدل سعر الكراء في باريس، حسب المقال نفسه، هو 824 يورو شهريا). بما أن الكراء في هذه الحالات يتم بدون عقد إيجار، فالواقع الذي ينتجه يحول الفتيات المعنيات إلى رهائن وضحايا استعباد جنسي حقيقي. بمعنى أنهن إن رفضن تلبية الرغبات الجنسية لصاحب البيت، وفي أي وقت يشاؤه، يصبحن معرضات للطرد من البيت.

اقرأ للكاتبة أيضا: توفيق بوعشرين: ضحايا في قفص الاتهام

إلى هنا، يمكن أن نكتفي بالتنديد بالظاهرة وبأن نقول: "أرأيتم؟ حتى في الدول المتقدمة، هناك هوس جنسي واستغلال جنسي للنساء. المشكل لا يتعلق فقط بالمسلمين والعرب".

المجتمعات الغربية في معظمها، تحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية للجاني: للمغتصب والمتحرش والمستغل جنسيا

​​هذا صحيح إلى حد كبير؛ فالاستغلال الجنسي موجود في كل الثقافات، ومعه الاغتصاب والعنف والتحرش. لكن الموضوعية تقتضي منا أن نذهب أبعد من ذلك في تحليل الظاهرة. الفرق الكبير بين ثقافتنا وثقافتهم، أن المجتمعات الغربية تعترف بأشكال الخلل هذه وتبحث لها عن حلول، بينما معظم مكونات مجتمعنا ترفض الاعتراف حتى بوجود هذه الظواهر، وتعتبرها نادرة أو دخيلة؛ وكأننا نعيش في طهرانية عظيمة لا يشوش عليها إلا المنددين بأشكال الخلل.

المشكل الكبير الآخر هو أن المجتمعات الغربية في معظمها، تحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية للجاني: للمغتصب والمتحرش والمستغل جنسيا؛ بينما في ثقافتنا، وفي مثل هذه الحالات، فنحن لن نسائل الجاني بقدر ما سنسأل: "ولماذا قبلت بهذا الوضع؟"، "الشريفة لا تأكل ولا تسكن بثديها". "هي من أغرته". "هي الرخيصة". "أليس لها عائلة تسكن معها؟".

هكذا، تتحول الضحية إلى متهمة في نظر الكثيرين؛ لأن القليلين فقط سيشيرون لمسؤولية الجاني الحقيقي.

اقرأ للكاتبة أيضا: فأل سيء... فأل حسن

مقال مجلة ليكسبريس الفرنسية يخبرنا أيضا أن وزيرتين فرنسيتين سابقتين، هما "سيسيل دوفلو" و"باربارا بومبيلي"، قامتا حينها باقتراح مشروع قانون يحد من هذه الممارسات، بتحميل الموقع الإلكتروني الناشر لهذا النوع من الإعلانات، المسؤولية القانونية لممارسة فعل القوادة. لكن البرلمان الفرنسي رفض مشروع القانون هذا، معتبرا أن قانون 2012 لمكافحة التحرش الجنسي كاف لردع هذه الحالات.

هكذا، نكتشف أن الترسانة القانونية والوضع الاجتماعي والاقتصادي لا يوفران حماية كافية للنساء في وضعية هشاشة اقتصادية. لكن المجتمع بمكوناته والإعلام والسياسيين، يناقشون الوضع ويعترفون بخطورته، يحملون المسؤولية للفاعلين الحقيقيين ولمن يسهلون جرائمهم، كما أنهم يبحثون عن سبل الحد من هذه الظواهر. وهذه في حد ذاتها مبادرات مهمة تترجم الوعي السياسي والمجتمعي والإعلامي بخطورة هذه الظواهر؛ بانتظار إيجاد حلول فعلية لها.

أما نحن، فلنكتف بإرضاء غرورنا بالإشارة إلى عيوب المجتمعات الأخرى، حتى نقتنع بطهرانيتنا العظيمة... وحين سيضع حكيم بيننا يده على بعض أشكال الخلل، سننتبه لتفاصيل التجاعيد على يده أكثر من اهتمامنا بالخلل الذي يحذر منه.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.