تيلرسون خلال إدلائه ببيان عقب إقالته (أ ف ب)
تيلرسون خلال إدلائه ببيان عقب إقالته (أ ف ب)

بقلم جويس كرم/

وكأن تغييب ريكس تيلرسون عن تفاصيل المفاوضات مع كوريا الشمالية، وتهميشه في قضايا نقل السفارة الأميركية إلى القدس، الموقف من إيران، والأزمة مع قطر لم يكن كافيا لإحراج الوزير، فجاء طرده عبر تغريدة من دونالد ترامب صباح الثلاثاء عبر حسابه في موقع تويتر ليختتم أحد أقصر وأسوأ الحقبات لأي وزير في هذا المنصب.

تيلرسون لم يستقيل بل تم طرده. وترامب لم يرفع حتى السماعة لإبلاغه بذلك. جاءه الخبر عبر مديرة الفريق مارغريت بيترلين كما نقلت الصحافية لورا روزن، التي قرأت التغريدة بعد ساعتين من عودته من جولة إفريقية، وكون الوزير العتيد ليس لديه حساب على موقع تويتر. مع ذلك، فالإقالة ليست بالمفاجئة، ولا تعيين مدير وكالة الاستخبارات المركزية (س آي آيه) مايك بومبيو في المنصب. الخطوة الأولى تبررها خلافات شخصية، وسياسية ومنهجية بين الرئيس ووزيره، والثانية لها أبعاد إقليمية وداخلية حول السياسة الأميركية ودور الخارجية في صنع هذه السياسات.

أولا وفي قراءة طرد تيلرسون، تبرز الخلافات الشخصية وانعدام الكيمياء بينه وبين ترامب في قائمة الأسباب لخروجه. فالوزير الذي وصف ترامب بـ"المغفل" كما نقلت شبكة "أن. بي. سي" الصيف الفائت، فشل منذ اليوم الأول من تسلمه المنصب في بناء رابط وثيق مع الرئيس. اختاره ترامب بسبب بنيته الجسدية واتمامه صفقات نفطية خلال توليه إدارة شركة "إكسون"، وذلك بحسب المستشار السابق ستيف بانون. لم تترجم هذه الصفقات في الخارجية، لا بل أثبت تيلرسون فشلا ذريعا في إدارة الخارجية والإلمام بالملفات الدولية.

طرد تيلرسون واستبداله ببومبيو يزيد نسبة الوضوح لسياسة ترامب الخارجية، ويعد بدور أكبر إنما أكثر تشددا للوزارة في الشرق الأوسط

​​الوزير (السابق) المنطوي كان يجلس في الطابق السادس ويغلق باب مكتبه. لا يحب كثرة الاختلاط ولا حتى الاتصالات في أوقات الأزمات. خلال عهده القصير في الخارجية، خرج كبار الديبلوماسيين والسفراء وشهدت الوزارة أكبر فراغ إداري فيها تماشيا مع تطلعات تيلرسون لخفض الانفاق. لا سفير بعد لترامب في السعودية، لا سفير في قطر، وقريبا تغادر سفيرة الإمارات العربية المتحدة. ليس هناك مساعد دائم لقضايا الشرق الأدنى، وشواغر يبلغ عددها تسعة في المناصب الإدارية الحيوية.

أما على المستوى الخارجي، فلم ينجح الوزير في إحداث اختراق في أزمة قطر، أو مع تركيا في الشمال السوري، وكان غائبا تماما عن ملف كوريا الشمالية وتم تهميشه في عملية السلام ونقل السفارة إلى القدس، وفي الانسحاب من اتفاق باريس للتغير المناخي.

إرث تيلرسون، رغم نواياه الطيبة، هو تحطيم بنية الخارجية الأميركية من الداخل والفشل في تحصيل أي إنجاز ديبلوماسي في الخارج. إرث سيتطلب سنوات لإصلاحه، واستعادة بعض الهيبة للوزارة والديبلوماسية الأميركية.

اقرأ للكاتبة أيضا: ترامب يراجع خياراته حول سورية

من هنا، سيكون الامتحان الأصعب الذي ينتظر بومبيو، إعادة ثقة الديبلوماسيين وفريق الخارجية بوزارتهم، قبل أي إنجاز تفاوضي قد يحققه في أزمات دولية. بومبيو، سلس في كلامه ومتشدد في سياسته، قريب جدا من ترامب بسبب الإيجاز الاستخباراتي الصباحي الذي يقدمه للرئيس. كما أن له علاقة ممتازة بنائب الرئيس مايك بنس، وبشخصيات في الكونغرس مما يسهل عملية المصادقة على تعيينه.

أما في الشرق الأوسط، فمايكل بومبيو شخصية معقدة، متشددة ضد التطرف الإسلامي وضد إيران، وفي نفس الوقت تبدي ليونة في الأدوات الديبلوماسية للتعاطي مع هذه الملفات. والمعروف عن بومبيو قدرته على مخاطبة النظام الإيراني مباشرة.

بومبيو هو شخصية معقدة، متشددة ضد التطرف الإسلامي وضد إيران، وفي نفس الوقت تبدي ليونة في الأدوات الديبلوماسية للتعاطي مع هذه الملفات

​​فمثلا في 2016 طلب تأشيرة لدخول إيران ومراقبة الانتخابات في شباط/فبراير من ذلك العام، تم رفضها طبعا. كما بعث الوزير الجديد ببرقية سرية لقاسم سليماني العام الفائت في العراق يحذره فيها من استهداف الوجود الأميركي. قاسم سليماني أعاد الرسالة من دون فتحها. أسلوب بومبيو يعكس قدرة مزدوجة على الانخراط مع طهران وفي نفس الوقت التشدد ضدها، وهذه أدوات سيستخدمها في التفاوض مع الأوروبيين حول إطار اتفاق للاتفاق النووي الإيراني.

الوزير الجديد سيكون أيضا أكثر تشددا مع روسيا وتركيا وأكثر تعاطفا مع إسرائيل من تيلرسون. فهو أيد نقل السفارة إلى القدس، الأمر الذي عارضه تيلرسون، لكنه يثمن التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية وكان أول ركن من إدارة ترامب يلتقي الجهاز الأمني في السلطة الفلسطينية العام الفائت.

أما مع روسيا، فاتهم موسكو بالتدخل مباشرة بالانتخابات الرئاسية. وفي تغريدة جرى حذفها لاحقا من 2017 وصف تركيا "بالديكتاتورية الإسلامية السلطوية".

في نفس الوقت سيكون عليه التعاطي مع هؤلاء اللاعبين، خصوصا أن واشنطن لا تحمل الكثير من الأوراق، لتسهيل مهام واشنطن في سورية وفي الشرق الأوسط عموما وتفادي حرائق أخرى.

طرد تيلرسون واستبداله ببومبيو يزيد نسبة الوضوح لسياسة ترامب الخارجية، ويعد بدور أكبر إنما أكثر تشددا للوزارة في الشرق الأوسط. أما إنجاز الصفقات سواء في عملية السلام، إن في سورية، أو مع الأوروبيين حول إيران، أو كوريا الشمالية، فذلك سيتطلب زخما ديبلوماسيا وسياسيا واستراتيجيا، أكبر من حقيبة الخارجية.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.