تظاهرة لأطباء جزائريين (أ ف ب)
تظاهرة لأطباء جزائريين (أ ف ب)

بقلم بابكر فيصل بابكر/

يظل مبحث العلاقة بين الدين والدولة من أهم المباحث المطروحة في الساحة السياسية العربية والإسلامية حيث ظل الدين يلعب الدور الأكبر في توجيه حياة شعوب المنطقة، وفي تشكيل علاقتها بالأنظمة الحاكمة.

تسيدت النظرة الدينية (السلفية في الغالب الأعم) المشهد الحضاري الإسلامي وتوحدت مع السلطة لأن من مصلحة الأخيرة دائما تغييب عقل القاعدة الجماهيرية العريضة حتى يسهل عليها تسييسها. واستمر تحالفها مع السلطة السياسية لأنه لا بد لكل سلطة من مشروعية، وفي المنطقة العربية والإسلامية ترجع المشروعية للدين.

ولعلنا حاليا نرى أن السلطات السياسية في العالم العربي توحد بينها وبين المؤسسات الدينية الرسمية علاقة تبادل منافع. فالسلطة السياسية تغدق على المؤسسات الدينية المنح والمناصب والرواتب والعطايا وأعضاء المؤسسة الدينية الرسمية يمنحون الشرعية لتلك السلطات السياسية.

كان يتوجب على أعضاء المجلس الإسلامي أن يتساءلوا عن الفساد المستشري في جسد الدولة

​​ويعلم أصحاب السلطة أن أسهل الطرق لتبرير جميع أفعالهم والسيطرة على شعوبهم هو طريق الدين، وذلك عبر خلق طبقة من الكهنوت تصبغ على الحكم مسحة دينية يستطيعون من خلالها تدجين تلك الشعوب وسوقها بيسر وسلاسة لتأييد الحكام.

وتمثل الفتوى الدينية أحد أهم مرجعيات الشرعية الصادرة عن المؤسسة الدينية، إذ تعتبر أداة مهمة يتم توظيفها بواسطة الأشخاص أو التيارات السياسية المستندة الى الفكر الديني أو الأنظمة الحاكمة لإضفاء صفة المشروعية أو نزعها عن المواقف السياسية.

اقرأ للكاتب أيضا: في نقد مفهوم البيعة عند الإخوان المسلمين (3)

في هذا الإطار أصدر المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر مؤخرا فتوى جديدة تحرم الهجرة غير الشرعية، وذلك على خلفية تنامي ظاهرة هجرة الجزائريين بطريقة سرية إلى أوروبا وهو الأمر الذي أثار قلق السلطات الحكومية.

وقد أيد وزير الشؤون الدينية الجزائري، محمد عيسى، فتوى المجلس الإسلامي الأعلى التي اعتبرت أن الهجرة غير الشرعية أو ما يصطلح على تسميتها بـ "الحرقة" باللهجة المحلية حرام شرعا، قائلا "المجلس الإسلامي الأعلى، وهو أعلى سلطة إفتاء في الجزائر، قد أفتى بتحريم هذه الظاهرة".

وبغض النظر عن الرأي السياسي حول ظاهرة الهجرة غير الشرعية لأوروبا، فإنه يبدو جليا أن فتوى المجلس الإسلامي الجزائري قد جاءت مؤازرة لتوجه حكومي معارض لتلك الهجرة، وبالتالي فإن المجلس يقدم خدمة للسلطة في إطار سعيها للحد من تلك الظاهرة عبر استصدار قرار ديني يعتبرها عملا محرما.

الأمر المؤسف هو أن المجلس الإسلامي ذاته لا يجهد نفسه في الاجتهاد والنظر بالأسباب والدوافع الحقيقية التي تجعل الآلاف من الشباب الجزائريين يهاجرون ويفضلون المجازفة والسفر لأوروبا عبر قوارب الموت بدلا من البقاء في وطنهم الأصلي.

كان الأجدر بالقائمين على أمر الفتوى أن ينظروا لحال وطنهم ويسألون أنفسهم لماذا يعيش أكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر

​​السبب الواضح لعزوف المجلس عن تناول تلك الأسباب هو أنها ستقود حتما للمواجهة مع السلطة التي تتحكم في مصادر رزق أعضاء ذلك المجلس وامتيازاتهم وأوضاعهم المالية، وبالتالي فإنهم لن يجرؤا على انتقاد السلطة التي بإمكانها حرمانهم من تلك المزايا. وهو ما يوضح بجلاء طبيعة العلاقة التي يتم من خلالها تسخير الفتوى الدينية لخدمة مصالح الطرفين.

كان الأجدر بالقائمين على أمر الفتوى في المجلس الإسلامي أن ينظروا لحال وطنهم ويسألون أنفسهم لماذا يعيش أكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر في بلد مثل الجزائر هو سادس مصدر للغاز الطبيعي في العالم، وثاني منتج للنفط؟

ثم كان عليهم أيضا أن يتساءلوا عن نسب البطالة المرتفعة في بلد تقل أعمار 70 في المئة من سكانه عن الثلاثين عاما، ويوجد فيه أكثر من مليون ونصف المليون عاطل عن العمل (بحسب الأرقام الحكومية). وهو الأمر الذي يدفع آلاف الشباب للمجازفة بأرواحهم في طريق الهجرة من أجل البحث عن سبل العيش الكريم الذي قد يكلفهم فقدان حياتهم وهم في الطريق لأوروبا.

اقرأ للكاتب أيضا: ما يزال هدم الكنائس مستمرا في السودان

وقبل هذا وذاك، كان يتوجب على أعضاء المجلس الإسلامي أن يتساءلوا عن الفساد المستشري في جسد الدولة، وعن المتنفذين في السلطة والنخب العسكرية والطفيلية ورجال الأعمال الذين برعوا في نهب ثروات الجزائر الطبيعية وكبت وتهميش الكفاءات البشرية الفكرية والعلمية، وعن إهدار الأموال الطائلة في تسليح الجيش دون حاجة حقيقية لذلك.

جميع هذه الآفات ليست سوى أعراض لمرض فتاك معروف اسمه الاستبداد والحكم العسكري المتدثر بعباءة الحزبية التي عجزت أن تأتي برئيس يتمتع بكامل الصحة الجسمانية والعقلية لهذا البلد العملاق، واكتفت باستمرار الرئيس بوتفليقة صاحب الواحد وثمانين ربيعا من العمر والذي يطمح للاستمرار في الحكم لدورة رئاسية خامسة رغم ظروفه الصحية التي لا تمكنه من إدارة دولة في حجم الجزائر!

لا شك أن كل هذه الأمور معلومة بالبداهة للمجلس الإسلامي ولكن أعضاءه لن يتجرأوا على إصدار فتوى تحرم على الرئيس الاستمرار في الحكم على الأقل بسبب عجزه الصحي. وهم كذلك لن يطالبوا بإقامة نظام حكم ديموقراطي يتميز بالنزاهة والشفافية ويؤدي للتداول السلمي الحقيقي للسلطة.

غني عن القول إن إصدار فتوى بتحريم الهجرة غير الشرعية لن يحل المشكلة وستظل حشود الشباب الجزائري تطرق أبواب البحر المتوسط متجهة نحو أوروبا ما لم تتوفر لها في بلادها وسائل العيش والعمل والاستقرار، وهو ما يعلمه رجال الدين الذين لا يهمهم شيئا سوى إرضاء السلطة بمثل هذه الفتاوى البائسة.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.