الدمار في الغوطة الشرقية بعد القصف السوري والروسي (أ ف ب)
الدمار في الغوطة الشرقية بعد القصف السوري والروسي (أ ف ب)

بقلم فارس خشّان/

عندما هبت رياح "الربيع العربي" على دمشق، وحدهم الضليعون بفهم الجغرافيا السياسية، جزموا بأن سورية لن تحصد سوى أنهارا من الدماء وجبالا من الجثث.

هؤلاء لم ينظروا يوما إلى سورية بصفتها كيانا يحتضن شعبا متنوع المنشأ الحضاري، بل بصفتها وظيفة جغرافية أولا وأخيرا.

وهذه النظرة الباردة إلى سورية، كانت سر ما سمي بدهاء حافظ الأسد وديمومة نظامه، إذ أنه فيما كان يستعبد شعبه ويحرمه من أدنى حقوقه، بما فيها حق البقاء، حصن نفسه كاهنا أمينا في "معبد الوظيفة الجغرافية".

ومنذ العام 1973، تحول حافظ الأسد إلى لاعب حدودي، فيما حول شعبه إلى ضحية مهملة.

إن ما ردده بشار الأسد عن وجود "مؤامرة كونية" صحيح ولكن ليس على نظامه بل على "الثوة السورية"

​​لم يكن أي لاعب في العالم يهتم بضحايا حافظ الأسد. لا الذين ماتوا في المعتقلات السياسية، ولا الذين عبدت الطرق على جثثهم، ولا الذين عاشوا محرومين من كل حق، تمكنوا من هز جفن واحد على امتداد العالم. كل ما كان يهم هو أداء حافظ الأسد على رقعة الجغرافيا السياسية.

ولأنه كان كذلك، فقد رعى المجتمع الدولي التوريث في سورية، فالارتياح لوظيفة الأب أنتج ترويجا للابن. لقد عثر المجتمع الدولي للابن المجهولة أفعاله ونياته وقدراته، حسنات افتراضية وراح يبني عليها قصورا من.. أوهام.

اقرأ للكاتب أيضا: الفرنسيون و12 أيار/مايو المقبل

وعندما كادت رياح "الربيع العربي" التي وصلت إلى سورية تقتلع بشار الأسد ونظامه، أشاح المجتمع الدولي نظره عن دخول إيران وميليشياتها، وحين وصلت إيران إلى حافة العجز، كانت ثمة مباركة للهجمة الروسية.

حصل هذا كله، قبل نشوء "داعش"، وهو سوف يستمر بعد هزيمة "داعش"، لأنه حتى اليوم، لا يأمن المجتمع الدولي على حراسة الوظيفة الجغرافية لسورية إلا لنظام الأسد.

وحيث يعجز الأسد عن أداء الدور المطلوب منه، بسبب طموح إيران وقدراتها المهيمنة، تحدث "التدخلات التصحيحية"، بغض طرف روسي مشهود.

وفي هذا الإطار، يمكن فهم الغارات الإسرائيلية، والدخول التركي في معارك محدودة جغرافيا، والرسوخ الأميركي في نقاط استراتيجية تعنى بالحدود مع العراق.

وسبق أن أقر المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا، للجنة السياسة الخارجية في البرلمان الفرنسي، بأن كبار اللاعبين في مجلس الأمن غير معنيين بما يحصل في سورية إلا من مدخل مناطق النفوذ الإقليمي.

ولأن الموضوع كذلك، فإن الغوطة الشرقية التي تحولت إلى جحيم على الأرض، لا يمكن أن يعطيها العالم إلا قصائد سياسية ومواقف وجدانية وبعض خبز وجبن وشاي، في حين ينحصر العمل الميداني المضاد على مناطق النفوذ.

فالغوطة الشرقية تعتبر امتدادا استراتيجيا لـ "سورية المفيدة" التي سلم العالم بها كرقعة نفوذ واجهتها الأسد وجنديها الخامنئي وقيصرها بوتين. و"سورية المفيدة" تبقى رقعة حرة لهذا النفوذ، إلا متى مست بالخط الأحمر الإسرائيلي.

لذلك، فإن كل المجازر التي ترتكب تحصينا لها، لا تثير اهتمام من يملك القوة. فقط الاشتباه بحركة لقافلة صواريخ أمر يستدعي التدخل ولو أدى ذلك إلى مواجهة إقليمية مفتوحة.

مصير سورية ليس مرتبطا أبدا بطرف منتصر، لأنه لن يكون هناك أي طرف ينفرد بالانتصار

​​وما كلام إسرائيل المتصاعد عن إمكان نشوب حرب طاحنة بينها من جهة وبين إيران المتمترسة في سورية ولبنان من جهة أخرى، إلا بهدف تأطير الوظيفة المطلوبة في رقعة النفوذ التي "يتوجهن" فيها بشار الأسد.

وتأسيسا على هذه النظرة الجيوسياسية، فإن ما ردده بشار الأسد، مئات المرات، عن وجود "مؤامرة كونية" صحيح ولكن ليس على نظامه بل على "الثوة السورية".

ولولا هذه "المؤامرة الكونية" لما تمكن "حزب الله" وسائر أذرع "الحرس الثوري الإيراني" من الدخول إلى سورية، ولما كانت الساحة بقيت فارغة لتهيئ الدخول الروسي العسكري، وتاليا لما تدمرت سورية وشرد شعبها، بين ملايين الداخل وملايين الخارج.

اقرأ للكاتب أيضا: "14 آذار" والمستحيل

ولولا هذه "المؤامرة الكونية" لما كان الجحيم قد فتح سنوات طويلة، ويقدر له أن يبقى كذلك لسنوات طويلة أخرى.

مصير سورية ليس مرتبطا أبدا بطرف منتصر، لأنه لن يكون هناك أي طرف ينفرد بالانتصار.

في الواقع، مصير سورية مرتبط بتفاهم دولي على تقسيم النفوذ فيها، لتستمر من خلال أطراف عدة وظيفتها الجغرافية التي كانت منوطة بحافظ الأسد وعجز بشار الأسد عن القيام منفردا بها.

وحتى إشعار آخر، فإن هذا التفاهم غير متوافر لأسباب كثيرة، فالعقلية الأسدية ـ الإيرانية تقوم على مبدأ الانتصار الكامل أو مواصلة الحرب، والعقلية الإسرائيلية تقوم على التدخل حصرا لمنع نمو تهديد مستقبلي، والعقلية الروسية تريد فرض سلامها، والعقلية التركية تريد تقليم أظافر الأكراد، والعقلية الأميركية تريد إنهاك الخصوم، بشريا وماديا ومعنويا، في جحيم مفتوحة أبوابه عليهم، والعقلية الأوروبية لا تملك إلا "طموح العجائز"، والعقلية العربية مجرد "تعتير بتعتير".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.